قد يصبر الكبار على المصاب، بهدف الوصول إلى حلم الحرية المنشود في سورية. وربما يستطيعون التأقلم مع حياتهم الجديدة في المخيمات ودول اللجوء، برغم صعوبتها، مع ما يحملون من غصّات وذكريات هلع وحزن وألم. لكن للأطفال قصة أخرى، فهم قد يُبدون تأقلماً ظاهرياً ينهار تماماً عند أول تحدٍ واقعي، لتطفو على السطح فجأة كل مخاوف العالم المخزونة في دواخلهم.
أربعة أعوام من الرعب والتشرد، عاشها أطفال سورية بكل تفاصيلها، فتركت في أرواحهم الغضة ندوباً تستعصي حتى اللحظة على الزوال، بسبب استمرار مسبباتها، وإن تغيرت ظاهرياً بعض الشيء.
منذ فترة، نشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لطفلة سورية في أحد مخيمات اللاجئين في الأردن ترفع يديها بعلامة الاستسلام عند اقتراب مصور منها، لاعتقادها بأنّ ما يحمله بيده سلاح لا كاميرا.
وكذلك يحاول ناشطون إيصال صوت بكاء عائشة، الطفلة السورية بائعة المحارم على أرصفة مدينة تركية، ومعالم الذعر التي غطت وجهها عندما اقترب منها شرطي تركي لخوفها من الاعتقال.
الطفلتان لا تعبران عن حالة نادرة. فمعظم الأطفال السوريين يحملون من ذكريات الرعب ما تحملانه وربما أكثر. وهناك ملايين الأطفال السوريين في كل مكان يشبهونهما ولا أحد يعرف عنهم شيئا.
في أحد مراكز الإيواء في دمشق، وهو بناء مدرسة حوله النظام إلى مركز لاستقبال اللاجئين، تنفذ منظمة اليونيسف برنامجا لدعم الأطفال نفسياً من خلال ورش رسم ومسرح وموسيقى، بالتعاون مع مدرسين متطوعين في معظم الأحيان.
وهناك يروي كمال (اسم مستعار)، أحد مدرسي الرسم، لـ"العربي الجديد" بعض قصص الأطفال. يقول: "لم يكن سهلا على الأطفال في مركز الإيواء تقبلنا بادئ الأمر، فقد اعتادوا على أنّ كلّ من يتعامل معهم هو من رجال النظام، فاستغرق الأمر عدة جلسات حتى أقنعناهم بعدم الخوف، ومن بعدها الرسم. كنت أطلب منهم أن يرسموا أي فكرة تخطر في بالهم، فينظرون إليّ بحذر ثم يرسمون العلم السوري والدبابات وأفراد الجيش. استطعت بعد حين كسب ثقتهم، فأخذوا يرسمون أشكالا مختلفة ومواضيع تتنوع بين الزهور والأشجار والبيوت، حتى إنّ بعضهم كان يرسم علم الثورة السورية ويكتب كلمة حرية داخله. أصبحوا يعبرون بالألوان فقط، خصوصاً الأحمر".
يتابع: "كانوا يتحرّرون من خوفهم جلسة بعد أخرى. إلا أن الأمر تغيّر فجأة في إحدى الجلسات عندما دخل إلى الصف، ومن دون استئذان، أحد القياديين الحزبين المشرفين على المدرسة. كانت الجلسة في بدايتها، والأطفال قد بدأوا للتو بنشر فوضى ألوانهم على الأوراق، لكنهم، وخلال دقائق، أنهوا لوحاتهم وسلموها إليّ وغادروا مسرعين. قلّبت اللوحات الصغيرة بين يديّ، دققت فيها جميعا، كانت عبارة عن عشرين لوحة رُسم عليها العلم السوري".
يروي كمال قصة أكثر خصوصية، فيقول: "عملت مع هذه الورش في المدرسة ذاتها لعام ونصف العام. لم يتغيب فيها محمود، وهو طفل في الرابعة نزح مع والدته وثلاثة إخوة من منطقة ببيلا بريف دمشق، عن أي جلسة. كان أول الحاضرين دائما وآخر من يغادر. وفي كل جلسة، كان محمود يطلب ورقة بيضاء وبعض الألوان التي يصر أن يكون الأحمر جزءا منها. لم يكن محمود يتقن الكلام؛ فقد خسر نطقه جزئيا بعد تعرض بيته للقصف. وفي نهاية كل جلسة كان محمود يسلمني ورقته البيضاء وقد رسم عليها عدة خطوط متعرجة ومتقاطعة مع بقع فوضوية لألوان يغلب عليها الأحمر. عندما سألته أكثر من مرة عمّا رسمه، كان يجيبني دائماً بكلمات متقطعة، أنّه سقف بيته، ثم يحاول التوضيح أكثر فيصدر صوت القنبلة: "بوووم"، ويُشير بكلتا يديه ليقول لي إن سقف بيته قد سقط، وإنه رأى والده في لحظتها بقعة حمراء. ما يحزّ في نفسي كثيراً أنه، وبرغم كل محاولاتنا كفريق عمل، لم نستطع أن نجعل محمود يرسم شيئا آخر".
وفي حادثة أخرى، يروي عاصم (اسم مستعار)، وهو محامٍ من القامشلي، حالة طفليه اللذين أجبرا على تحمل مشقة رحلة التهريب إلى تركيا: "كان علينا، أنا وزوجتي، أن نخبر طفلينا بالحقيقة كاملة، رغم صغر عمرهما، كي لا نفشل في هروبنا إلى الحياة، مع تحوّل بلدنا الحبيب إلى جحيم. قلنا لحازم (7 سنوات) بحضور أغيد (3 سنوات) إنّه كبير وبطل. وإنّنا سنذهب إلى أقاربنا إلى تركيا كي يتمكن مع شقيقه من مشاهدة التلفاز واللعب في الحدائق والتعرّف على أصدقاء جدد. وأخبرناه أنّه لا توجد هناك أصوات مدفعيّة ولا انفجارات، ولن نشاهد فجأة، في طريق عودتنا إلى البيت، أشخاصاً نزفوا حتى الموت... ثمّ أنهينا الحديث، بالفقرة المخيفة من الفيلم: هناك عساكر، نجهلُ لغتهم، سيُعيدوننا إلى الجحيم، إذا كشفوا وجودنا، لن نستطيع نيل السعادة بعدها أبداً".
رافقت عاصم وعائلته عائلة أخرى كانت قد نزحت من الحسكة قبل عام، مكونة من أب وأم وطفلين بأعمار تقارب أعمار حازم وأغيد. وكان عاصم يطلب من الأطفال التزام الصمت وعدم القيام بأي ضجة قد تلفت انتباه حرس الحدود الأتراك، وقد استجاب الأطفال فعلاً، وهربوا إلى الحياة.
أربعة أعوام من الرعب والتشرد، عاشها أطفال سورية بكل تفاصيلها، فتركت في أرواحهم الغضة ندوباً تستعصي حتى اللحظة على الزوال، بسبب استمرار مسبباتها، وإن تغيرت ظاهرياً بعض الشيء.
منذ فترة، نشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لطفلة سورية في أحد مخيمات اللاجئين في الأردن ترفع يديها بعلامة الاستسلام عند اقتراب مصور منها، لاعتقادها بأنّ ما يحمله بيده سلاح لا كاميرا.
وكذلك يحاول ناشطون إيصال صوت بكاء عائشة، الطفلة السورية بائعة المحارم على أرصفة مدينة تركية، ومعالم الذعر التي غطت وجهها عندما اقترب منها شرطي تركي لخوفها من الاعتقال.
الطفلتان لا تعبران عن حالة نادرة. فمعظم الأطفال السوريين يحملون من ذكريات الرعب ما تحملانه وربما أكثر. وهناك ملايين الأطفال السوريين في كل مكان يشبهونهما ولا أحد يعرف عنهم شيئا.
في أحد مراكز الإيواء في دمشق، وهو بناء مدرسة حوله النظام إلى مركز لاستقبال اللاجئين، تنفذ منظمة اليونيسف برنامجا لدعم الأطفال نفسياً من خلال ورش رسم ومسرح وموسيقى، بالتعاون مع مدرسين متطوعين في معظم الأحيان.
وهناك يروي كمال (اسم مستعار)، أحد مدرسي الرسم، لـ"العربي الجديد" بعض قصص الأطفال. يقول: "لم يكن سهلا على الأطفال في مركز الإيواء تقبلنا بادئ الأمر، فقد اعتادوا على أنّ كلّ من يتعامل معهم هو من رجال النظام، فاستغرق الأمر عدة جلسات حتى أقنعناهم بعدم الخوف، ومن بعدها الرسم. كنت أطلب منهم أن يرسموا أي فكرة تخطر في بالهم، فينظرون إليّ بحذر ثم يرسمون العلم السوري والدبابات وأفراد الجيش. استطعت بعد حين كسب ثقتهم، فأخذوا يرسمون أشكالا مختلفة ومواضيع تتنوع بين الزهور والأشجار والبيوت، حتى إنّ بعضهم كان يرسم علم الثورة السورية ويكتب كلمة حرية داخله. أصبحوا يعبرون بالألوان فقط، خصوصاً الأحمر".
يتابع: "كانوا يتحرّرون من خوفهم جلسة بعد أخرى. إلا أن الأمر تغيّر فجأة في إحدى الجلسات عندما دخل إلى الصف، ومن دون استئذان، أحد القياديين الحزبين المشرفين على المدرسة. كانت الجلسة في بدايتها، والأطفال قد بدأوا للتو بنشر فوضى ألوانهم على الأوراق، لكنهم، وخلال دقائق، أنهوا لوحاتهم وسلموها إليّ وغادروا مسرعين. قلّبت اللوحات الصغيرة بين يديّ، دققت فيها جميعا، كانت عبارة عن عشرين لوحة رُسم عليها العلم السوري".
يروي كمال قصة أكثر خصوصية، فيقول: "عملت مع هذه الورش في المدرسة ذاتها لعام ونصف العام. لم يتغيب فيها محمود، وهو طفل في الرابعة نزح مع والدته وثلاثة إخوة من منطقة ببيلا بريف دمشق، عن أي جلسة. كان أول الحاضرين دائما وآخر من يغادر. وفي كل جلسة، كان محمود يطلب ورقة بيضاء وبعض الألوان التي يصر أن يكون الأحمر جزءا منها. لم يكن محمود يتقن الكلام؛ فقد خسر نطقه جزئيا بعد تعرض بيته للقصف. وفي نهاية كل جلسة كان محمود يسلمني ورقته البيضاء وقد رسم عليها عدة خطوط متعرجة ومتقاطعة مع بقع فوضوية لألوان يغلب عليها الأحمر. عندما سألته أكثر من مرة عمّا رسمه، كان يجيبني دائماً بكلمات متقطعة، أنّه سقف بيته، ثم يحاول التوضيح أكثر فيصدر صوت القنبلة: "بوووم"، ويُشير بكلتا يديه ليقول لي إن سقف بيته قد سقط، وإنه رأى والده في لحظتها بقعة حمراء. ما يحزّ في نفسي كثيراً أنه، وبرغم كل محاولاتنا كفريق عمل، لم نستطع أن نجعل محمود يرسم شيئا آخر".
وفي حادثة أخرى، يروي عاصم (اسم مستعار)، وهو محامٍ من القامشلي، حالة طفليه اللذين أجبرا على تحمل مشقة رحلة التهريب إلى تركيا: "كان علينا، أنا وزوجتي، أن نخبر طفلينا بالحقيقة كاملة، رغم صغر عمرهما، كي لا نفشل في هروبنا إلى الحياة، مع تحوّل بلدنا الحبيب إلى جحيم. قلنا لحازم (7 سنوات) بحضور أغيد (3 سنوات) إنّه كبير وبطل. وإنّنا سنذهب إلى أقاربنا إلى تركيا كي يتمكن مع شقيقه من مشاهدة التلفاز واللعب في الحدائق والتعرّف على أصدقاء جدد. وأخبرناه أنّه لا توجد هناك أصوات مدفعيّة ولا انفجارات، ولن نشاهد فجأة، في طريق عودتنا إلى البيت، أشخاصاً نزفوا حتى الموت... ثمّ أنهينا الحديث، بالفقرة المخيفة من الفيلم: هناك عساكر، نجهلُ لغتهم، سيُعيدوننا إلى الجحيم، إذا كشفوا وجودنا، لن نستطيع نيل السعادة بعدها أبداً".
رافقت عاصم وعائلته عائلة أخرى كانت قد نزحت من الحسكة قبل عام، مكونة من أب وأم وطفلين بأعمار تقارب أعمار حازم وأغيد. وكان عاصم يطلب من الأطفال التزام الصمت وعدم القيام بأي ضجة قد تلفت انتباه حرس الحدود الأتراك، وقد استجاب الأطفال فعلاً، وهربوا إلى الحياة.