نحو ترشيد الاستهلاك في دول الخليج
ترشيد الاستهلاك، مفهوم لم يصل بعد إلى مسامع المواطن الخليجي، ربما شعر بأنه لا ينبغي أن يوجّه إليه، وأن ترشيد الاستهلاك يقوم به فقط مواطنو الدول الفقيرة ذوو الدخل المحدود، أما مجتمعات الطفرة النفطية في دول الخليج فقد يعتقد مواطنوها أنهم غير معنيين به أصلاً، ويترفعون عنه، لأنه يربط استهلاكهم غير الرشيد لمختلف الخدمات الأساسية، من كهرباء وماء وغذاء ووقود، بقدرته المادية، فما دام أنهم يستطيعون دفع الفواتير، فلا عتب عليهم في الإسراف والتبذير.
وتبدو المظاهر على تجاهل تلك القضية الحيوية، قضية ترشيد الاستهلاك، في سلوكيات عديدة، تتسم، أحياناً، بقدر كبير من السفه والسلبية واللامبالاة، إذ يلاحظ إهدار للطاقة الكهربائية في مدارس وجامعات ومؤسسات حكومية، وتترك أجهزة التكييف و"لمبات" الإضاءة تعمل طوال يوم العمل في قاعات خاوية للاجتماعات أو المحاضرات، أو في مكاتب غاب موظفوها، أو استأذنوا في أثناء العمل، وربما يمتد تشغيلها إلى اليوم التالي، نسيانا أو إهمالاً.
ويمتد هذا الهدر الاقتصادي، وبالتعبير الديني، الإسراف المنهي عنه شرعاً، إلى المساجد والمرافق الملحقة بها، وعلى الرغم من أن الشعوب الخليجية، بطبيعتها وتكوينها وخصوصية بيئتها الاجتماعية، يغلب عليها الالتزام الديني، إلا إنه لا ينعكس على قضية الإسراف، بل إن مواطنين قد يتركون سياراتهم ذات الدفع الرباعي في حالة تشغيل، وهي في مواقف الانتظار نصف ساعة إلى ساعة، في أثناء أداء صلاة الجمعة وسائر الصلوات، ونرى هذا السلوك، أيضاً، من بعضهم في مواقف انتظار المراكز التجارية، في تعامل خاطئ مع انخفاض سعر ليتر الوقود الذي يعد أقل سعراً من ليتر الماء.
وتلقي هذه المظاهر السلبية بظلالها على المؤشرات الإحصائية المقلقة بشأن معدلات الاستهلاك التي تتزايد بشكل مضطرد، ففي السعودية، وهي كبرى دول الخليج، سجّل استهلاك الفرد من الكهرباء مستويات مرتفعة جداً في العام الماضي 2013، بلغت في مجملها ضعف متوسط استهلاك الفرد في العالم. وبحسب تقرير هيئة تنظيم الكهرباء والإنتاج المزدوج، فإن الشركة السعودية للكهرباء اضطرت عام 2013 إلى زيادة قدرتها بنسبة 6.8% لمواجهة الزيادة في معدل الاستهلاك مقارنةً بعام 2012.
وعلى الرغم من شح مصادر المياه في الخليج، كشفت دراسة أعدتها شركة الاستشارات الإدارية العالمية (بوز أند كومباني) أن استهلاك الفرد السعودي للمياه أعلى من المعدل العالمي بنحو 91%، والأمر نفسه ينطبق على سائر دول الخليج بنسب متقاربة، على الرغم من أن أغلب مصادر المياه في الخليج تأتي عبر تحلية مياه البحر عالية الكلفة. ووفقاً لمعهد أبحاث "ميتسوبيشي" الياباني، فإن معدلات استهلاك الفرد من الكهرباء والمياه في قطر ضمن المستويات الأعلى عالمياً، ووقعت المؤسسة العامة القطرية للكهرباء والماء "كهرماء" عقداً مع المعهد في ديسمبر/كانون أول الماضي، لتقديم خدمات استشارية لترشيد الاستهلاك.
ويفاقم من حجم المشكلة واتساعها وعمقها أن هذا الشره الاستهلاكي لا تصاحبه سياساتٌ رسميةٌ لتحسين كفاءة استخدام الطاقة في دول الخليج، والتي تأتي، وفقاً لبيانات البنك الدولي، منخفضة بشكل حاد مقارنةً بالدول المتقدمة، وأسوأ الدول الخليجية في هذا المعيار هي البحرين، وأفضلها قطر، والكفاءة فيها كذلك دون مستوى المتوسط العالمي، فهي نصفها في بريطانيا، وربعها في الدول الاسكندنافية، وقد دفع هذا بحكومات الخليج إلى دعم أسعار الطاقة والكهرباء لديها بأكثر من 100 مليار دولار عام 2011.
ويبدو أن دول الخليج استشعرت وطأة هذا الهدر الاستهلاكي وسوء الاستخدام، فدقت ناقوس الخطر، حيث تعتزم الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، في الأسابيع القليلة المقبلة، تنفيذ حملة إعلامية توعوية واسعة النطاق، تهدف إلى رفع مستوى الوعي بأهمية ترشيد استهلاك الكهرباء والماء والحد من الطاقة المهدرة، في محاولة لتصحيح المفاهيم الاستهلاكية، وتعديل ثقافة سائدة وسلوك عام يتعامل من خلاله الفرد مع الثروات والإمكانيات الوطنية بمنطق النزف، ما دمت قادراً على الصرف.
ولكن، لن تؤتي هذه الجهود الإعلامية التوعوية ثمارها المرجوة، إلا إذا اقترنت بسياسات جديدة أكثر جدوى في تعزيز كفاءة الاستخدام، وزيادة محفزات ترشيد الاستهلاك، وإقرار جزاءات تصاعدية على الهدر غير المبرر للخدمات كافة، مع ضرورة الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في هذا المجال، والاستعانة بها في تنفيذ "اللائحة الخليجية الموحدة لترشيد استهلاك الماء والكهرباء"، حبيسة الأدراج والتي يتعين الإفراج عنها، ووضعها موضع التنفيذ، بما تتضمنه من سياسات تنسيقية وقرارات تحفيزية وتقنيات ترشيدية للكهرباء والماء والوقود، والتي باتت فريضة غائبة، وأصبح تنفيذها أمراً ملحاً، حماية للمستقبل وللأجيال المقبلة.