نحو استراتيجية فلسطينية وطنية

31 ديسمبر 2014

فدائيون فلسطينيون في موقع في جنوب لبنان (أكتوبر 1969/Getty)

+ الخط -

يمتلك الشعب العربي الفلسطيني حقاً مشروعاً في استخدام أشكال النضال كافة، بما فيها الكفاح المسلح، لمواجهة المشروع الصهيوني على أرض وطنه. تفتقر هذه الصيغة العامة، على صحتها، إلى ضرورة تحديد شكل النضال الرئيس في كل مرحلة، فمشروعية كل أشكال النضال لا تعني حتمية استخدامها كلها في الوقت نفسه، بل قد يصعب المزج بين أشكالها المختلفة، مثل الانتفاضتين، الجماهيرية والمسلحة. لذا، لابد من اختيار الاستراتيجية التي تحددها طبيعة المرحلة، والوسائل والإمكانات المتاحة وموازين القوى الراهنة وطرق تغييرها وأدواته، بل إن أي عجز في اكتشافها، أو تقديم أشكال ثانوية قد تترافق معها على الشكل الرئيس، سيعيق تحقيق الأهداف الوطنية.

قبل عام 1967، كانت الاستراتيجية العربية الثورية لتحرير فلسطين قائمة على تحقيق الوحدة العربية، وتغيير الأنظمة الرجعية، وبناء الجيوش الوطنية. لذا، اعتبرت محاولات حركة فتح القيام بعمليات عسكرية إعاقة لتلك الاستراتيجية، وتوريطاً لها في معركة قبل أوانها. في حينها، طرحت "فتح" أن العمل على تحرير فلسطين هو طريق الوحدة، عبر الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية. وشكل هذا استراتيجية العمل الوطني الفلسطيني حتى إقرار البرنامج المرحلي الذي عرف باسم برنامج النقاط العشر، وبدأت منظمة التحرير في سعيها إلى الحصول على مقعد في قطار التسوية المفترضة، مع تمسكها بالكفاح المسلح الذي تحوّل هدفه من التحرير، عبر حرب شعبية طويلة الأمد، إلى المحافظة على الذات، والدفاع عن الثورة، واستخدام وجودها على الساحة اللبنانية، لتعزيز أوراقها التفاوضية، من أجل تحقيق السلطة الوطنية الفلسطينية على أي أرض يندحر عنها الاحتلال.

في الانتفاضة الأولى، تغيرت الاستراتيجية الوطنية إلى استخدام الحجارة ووسائل المقاومة الشعبية، وحشد الفعاليات الجماهيرية، ومقاطعة الاحتلال، أساساً لهذه الاستراتيجية، في حين أصبحت العمليات العسكرية شكلاً ثانوياً من أشكال المقاومة والكفاح. ومنذ اتفاق أوسلو، انتهت مرحلة الكفاح المسلح الفلسطيني رسمياً، وحلت مكانها استراتيجية التسوية السلمية، عبر المفاوضات التي كسر رتابتها الرئيس ياسر عرفات، عندما أدرك وصولها إلى أفق مسدود، فقام بتشجيع وتمويل عسكرة الانتفاضة الثانية، معيداً استراتيجية الكفاح المسلح، أملاً في أن يشكل هذا ضغطاً كافياً على العدو، يتيح تحقيق بعض الحقوق الوطنية. وبعد استشهاد عرفات، عادت الاستراتيجية الفلسطينية إلى مربع المفاوضات التي أصبحت منهجاً للحياة، ووسيلة للحفاظ على استمرار السلطة، وبقائها ضمن إعادة تأهيل للأمن الفلسطيني، والالتزام بخطط الجنرال الأميركي، دايتون، في التنسيق الأمني الكامل مع الاحتلال، لإنهاء أشكال المقاومة وبذورها.

واعتبرت هذه الاستراتيجية المفاوضات الطريق الوحيد المتاح للوصول إلى حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأن موازين القوى لا تسمح، بأي شكل من المواجهة، وبالغت في انتقاد الانتفاضة السابقة التي وصفت بأنها جرت على شعبنا الكوارث، وغيبت هذه الاستراتيجية أي دور للجماهير التي سعت إلى تدجينها، عبر سياسات متعددة، تمت تحت مسمى إعادة تأهيل الطرف الفلسطيني، ليكون مقبولاً في عملية التسوية المفترضة.

عزز الانقسام الفلسطيني، وفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، واستفراد حركة حماس بإدارة القطاع، هذه السياسات، وأنشأ عصبيات وهمية، لا علاقة لها بالمشروع الوطني. لكن، في حين أنجزت المقاومة في غزة مشروعاً مقاوماً، بانت نتائجه في الحرب الأخيرة، وتمثلت بتعزيز قدرات المقاومة وبنيتها التحتية، وتسليحها وتدريبها، وتطوير قدراتها الصاروخية. ولدى السلطة في الضفه استراتيجية تدين كل أشكال المقاومة، وتعتبرها عبثاً وخطراً على مشروعها، وحجر عثرة في طريق المفاوضات، على الرغم من المبادرات والتصريحات الخجولة التي تخرج، غالباً، لتنفيس النقمة الجماهيرية، بدعوتها إلى المقاومة الشعبية السلمية، كلما زاد الاحتقان، جراء ممارسات الاحتلال، أو انسداد الأفق السياسي، مثلما تم خلال حرب غزة، أو انتفاضة القدس، واستشهاد زياد أبو عين، إلا أن الهدف الحقيقي لها هو إجهاض أي انتقاضة، وامتصاص الشحنات الزائدة من النقمة الشعبية، تمهيداً للالتفاف عليها، والعودة مرة أخرى إلى استراتيجية المفاوضات.

هنا، يأتي السؤال المشروع عن كيف يمكن تحقيق استراتيجية وطنية؟ وما هو الشكل الرئيس المتاح فيها من أشكال النضال؟ ولعلنا نختصر الإجابة بأنه، وفي ظل ظروف الانقسام الفلسطيني وما أنجزته المقاومة في غزة من جهة، وطبيعة الأوضاع في الضفة، الناجمة عن ممارسات السلطة طوال الفترة الماضية، فإننا قد نشهد شكلين مختلفين من النضال، لكنهما يصبان ضمن إطار استراتيجية وطنية شاملة.

في غزة، ينبغي الاستعداد للجولة المقبلة، بتعزيز قدرات المقاومة العسكرية والتمسك بسلاحها، وهذا يستدعي، في ظل فشل ما سميت المصالحة الفلسطينية، تشكيل إدارة وطنية موحدة من الفصائل والشخصيات الوطنية، تخوض النضال من أجل رفع الحصار، وتخفيف المعاناة الإنسانية، وتحافظ على قدرات المقاومة العسكرية وتطورها.

أما في الضفة الغربية، فقد آن الأوان لخوض مقاومة شعبية شاملة حقيقية، تشكل الوجه الرئيس، والسمة الغالبة لكفاح الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة. تتجاوز هذه المقاومة الشعبية ما عرف بالمسيرات الأسبوعية ضد جدار الضم العنصري، لتتحول إلى مواجهة يومية مع حواجز الاحتلال ومستوطناته ودورياته، في مقاومة شعبية، تتصدى للاحتلال، وتقيم لجانها الوطنية في كل الأحياء والمدن والقرى، مقاومة شعبية ترفض المفاوضات والاتصالات مع العدو، وتنهي كلياً التنسيق الأمني معه، وتضع شروطها لدحر الاحتلال من دون قيد أو شرط.

بهذا الفعل الثوري في الضفة وغزة، وما يرافقه من مشاركة مستمرة من العرب في المحتل الأول من الأرض الفلسطينية، ومع دعم وتأييد ومشاركة الشتات الفلسطيني والجماهير العربية، تتكامل خطوط استراتيجية وطنية فلسطينية، قد تستطيع أن تبدأ من جديد، وتضع حداً للانهيار والانقسام.

34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.