نجيب محفوظ .. ما الحيلة؟
نشر نجيب محفوظ روايته "أولاد حارتنا"، أواخر الخمسينيات، حلقاتٍ مسلسلةً في صحيفة الأهرام، وواجهت رفضا دينيا، تمثّل في قراءة بعض الإسلاميين لها بشكل خاطئ. فشلوا في فهم الرواية، على وضوحها، فقرّروا تحميل محفوظ المسؤولية. هاجموا الرواية، وطالبوا بمصادرتها، وكفّروا صاحبها. كان من الممكن أن يستثمر محفوظ في هذه المعركة التي لم يدخلها، وأن يتاجر بها، كما يفعل خصومه، وأن يظهر بوصفه المثقف المضطهد، لكنه ظلّ هادئا كعادته، وتحمّل معهم مسؤولية قراءتهم الخاطئة، كما أرادوا، وسحب الرواية، ورفض نشرها قبل موافقة الأزهر، وهي الموافقة التي لم تأت أبدًا، ومات الأستاذ، قبل أن تصدُر الرواية، في طبعة شرعية، ونشرت بعد وفاته بعشر سنوات.
"أولاد حارتنا" عمل فني ينتصر لقيمة الإيمان بالخالق، ويقول لمن اكتفوا بالعلم وهتفوا في غرور: "لقد مات الله"، إن العلم، على أهميته، لن يقوى على الاستغناء عن خالقه، وسيحيي الإيمان به في قلوب من أنكروه. تحمل الرواية وجهة نظر الحضارة العربية الإسلامية، وتنافح عنها. ووقف محفوظ فيها، كما كان دائما، موقف المنتمي لدينه وثقافته وحضارته. وعلى الرغم من ذلك، لم ينج من تيارات الضجيج الإسلامي، وواجه درجاتٍ مختلفة من التجنّي والاعتداء، اتفقت في تكفير الرواية، واختلفت في تكفير صاحبها.
حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب التي جاءته متأخرة عشرين عاما، على الأقل، ولاحقته إشاعاتٌ قذرة بأنه نالها مكافأة له على الطعن في الذات الإلهية، وقرّر نفر من الإسلاميين، يقودهم الشيخ عمر عبد الرحمن، أن يعاقبوه مرة أخرى، وكما صادروا روايته في المرّة الأولى، عقابا له على فشلهم في قراءتها، قرّروا مصادرة حياته، هذه المرّة، عقابا له على نجاحه، ووصوله المستحق إلى العالمية، وفي منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 1994، اقترب شابّان من الأستاذ نجيب فرفع يده للتحيّة فردّها عليه أحدهم بطعنة سكين في رقبته. وحين قبضوا عليه، قال إنه لا يعرف نجيب محفوظ، ولم يقرأه. وفي التحقيقات، أخطأ في اسمه، ونطقه معكوسا، "محفوظ نجيب"، وحين أفاق "الأستاذ" كان أول ما صرّح به، ودمه لم يجف بعد، بأنه يسامح من طعنه، ويعتبره ضحية.
زار أحمد كمال أبو المجد نجيب محفوظ في بيته، بعد محاولة الاغتيال، بشهور، ومعه محمد سلماوي، والناشر إبراهيم المعلم. سأله أبو المجد عن كلمته التي أرسلها إلى ندوة "الأهرام": "نحو مشروع حضاري عربي"، والتي قال فيها: إن أي مشروع حضاري عربي لا بد أن يقوم على الإسلام، وعلى العلم، فردّ محفوظ: "وهل في تلك الرسالة جديد؟.. إن أهل مصر الذين أدركناهم وعشنا معهم، والذين تحدّثت عنهم في كتاباتي، كانوا يعيشون بالإسلام، ويمارسون قيمه العليا، دون ضجيج ولا كلام كثير.. وكانت أصالتهم تعني هذا كله.. ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس، هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم.. ولكني في كلمتي إلى الندوة أضفت ضرورة الأخذ بالعلم، لأن أي شعبٍ لا يأخذ بالعلم، ولا يدير أموره كلها على أساسه، لا يمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب.. إن كتاباتي كلها، القديم منها والجديد، تتمسّك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا، والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا". ثم شرع الأستاذ نجيب في توضيح رؤيته في "أولاد حارتنا"، بالتفصيل، وطلب من أبو المجد أن يكتب عن ذلك، فكتب مقالة بعنوان: "حول أولاد حارتنا"، ونشرها في ديسمبر/ كانون الأول 1995، وأعاد نشرها في مقدمة الطبعة الرسمية الأولى من "أولاد حارتنا".
كان محفوظ متسامحا، متصالحا، يرى الجميع، ويتفهّم الجميع، ويعبّر عن الجميع. لم يغلق أبواب حكاياته في وجه أحد، بادر إلى كثير من التوافقات والترضيات، والاستعداد الكامل، وغير المشروط، للتفاهم. وعلى الرغم من ذلك، لم ينج، حيا وميتا، من الطعن في دينه، في رقبته، رحمة الله عليه، في ذكراه، سيذهب زبدهم جفاء، وستمكث رواياتُه في الأرض.