في روايته السادسة، "خمّارة جبرا"، والتي تصدر أواخر الشهر الجاري عن دار "كتب خان"، يحفر الروائي السوري نبيل ملحم (1953) عميقاً في ذاكرة دمشق/ المكان، بتحوّلاته الاجتماعية والسياسية، منذ بدايات الاستقلال إلى لحظة هتاف السوريّين للحرية.
يقف جاد الحق جاد الله، الشخصية الأساسية، أمام شاشة التلفزيون، التي تنقل أخبار القتل في سورية، ليهتف: الشعب يريد إسقاط النظام؛ فيسقط هو وتتحطّم عظامه التي لن تُجبَر أبداً. لحظة السقوط هذه لحظة تلخيصية لكل ما مضى من عمر جاد الحق، ولكل ما سيأتي، وكأن الراوي يريد بحسمٍ مطلق أن يقول: إن عظام جاد الحق هي عظام سورية الهشّة، التي لم تحتمل الوقوف والهتاف للحرية، نتيجة عقود النخر في بنية البلاد.
في مشهد آخر، في ساحة مشفى المجتهد وعلى كرسيٍ متحرّك، بين جثث القتلى والجرحى المتقاطرين من كل أنحاء دمشق، وعلى وقع أصوات الانفجارات، ينتظر جاد الحق وياسمينة/ الزوجة، طوال الرواية، سيارة تاكسي تقلّهم إلى المنزل.
بين اللحظتين، لحظة السقوط ولحظة انتظار وصول التاكسي، يأخذك الراوي في منطاد من اللغة الجارحة والصادمة، لتطلّ على دمشق بكرخاناتها وعاهراتها وسياسيها ومهرّجيها: "هي الذاكرة إذن منطادٌ كبير يرفعك بهدوء وبطء لتتجوّل مطلّاً على ساحات عمرك".
يؤسّس ملحم روايته في بيئتين مكانيّتين؛ الأولى هي وادي الغزال المكان الذي يولَد فيه جاد الحق، من علاقة غير شرعيّة بين رجل دينٍ يبارك نساء الوادي بنطافه، وأمّ يقتلُها تحت ضوء القمر لحظة ولادته في حقلٍ للخشخاش (حشيشة الكيف)، والثانية هي دمشق التي ينتقل إليها جاد الطفل رفقة أمّه البديلة زمرّدة.
وإن كان ملحم خلق وادي الغزال بواقعية سحرية مدهشة، فإن اللغة في دمشق وإلى آخر الرواية، تتحوّل إلى واقعية قذرة وجارحة، غارقة في القسوة والحكمة؛ بين حيّ صفيحٍ هامشي يُدعى "الصبّارة"، بخمّارتها، "جبرا" التي تجمع شخوص الرواية، من لصوصٍ وسكارى وهامشيين حالمين، وبين كارخانتَيّ باب الجابية والروبير، بمومساتها الفيلسوفات.
يأخذ صاحب "بانسيون مريم" بيد القارئ إلى نافذة كارخانة باب الجابية والروبير، ليشاهد تاريخ سورية منذ لحظة الاستقلال إلى لحظة الخراب الحالية؛ راصداً فيها أسباب تشوّه النفس البشرية، من خلال رمزية التحوّلات في شخصية جاد الحق، الذي لم تمُرّ في حياته سوى لحظة براءةٍ واحدة، هي حبّه لآنا اليهودية، قبل أن يتحوّل إلى حاملٍ لحقائب مسؤولي البعث، وكاتباً لخطاباتهم من جهة، ولقصائد شاعرة أرستقراطية من جهة أخرى. إنه بطل ينتهي بائعاً لكل شيء، إلا الذاكرة التي تلاحقه وهو في كرسيه المتحرّك.
يحضر الراوي بقوّة في العمل، بصيغة "الراوي - الإله"، الغائب/العالم. رغم ذلك، لا يبدو أنه متحكّم في قدر الشخصيات، بل يتبعها فقط، ملتقطاً وملخّصاً للحكمة والفلسفة من شفاهها. وفي حين تبدو شخصية جاد الحق محورية للسرد، إلا أن ثمّة عددً كبيراً من الشخوص في الرواية، حتى أن بعضها لا يتعدّى حضوره بضعة أسطر وبتكثيفٍ عالٍ، وكأنها خُلقت لتقول هذه السطور وتموت، وحين تسأل ملحم عن سبب هذا الكم الهائل من الشخصيّات، يجيب: "لأن الحياة هكذا".
لا يبدو أن أحداً هامشي في "خمارة جبرا"، فالراوي عادل لدرجة تشعر فيها أن شخصية جاد الحق التي أسّست للسرد، ليست الأكثر دهشةً أو غرابةً وتأثيراً في بنية العمل، فلا أبطال ولا مهزومين هنا؛ إنها رواية وجودية لا تطلق أحكاماً قيمية، تسأل فقط ولا تجيب، كل شخصية بُنيت من طينة فريدة، من شخصية فرنسا المومس العجوز التي تحلم بعودة الاحتلال الفرنسي، لكي تستعيد مجدها في حضن ضابطٍ فرنسي، إلى زوجها الذي يردّد النشيد الوطني: حماة الديار عليكم سلام، إلى عزرا اليهودي الذي يغادر دمشق إلى "إسرائيل الميعاد"، تاركاً مخطوطاتٍ وخرائط كنوز، بيد جاد الحق.
تتنوّع تقنيات الكتابة في "خمّارة جبرا"، فيحضر المقال والقصيدة والرأي السياسي والفلسفي والنص التاريخي، ببنيةٍ متماسكة ولغة عنيفة وصادمة؛ وتحضر قوّة الوصف والمشهدية السينمائية، إنها الراوية التي تأخذ خيال القارئ إلى شاشة السينما مباشرةً، مثل طفلٍ من دون شراء مرطبات.
تنتقم الراوية من فكرة النسل؛ نسل الشخوص؛ ونسل الأنظمة والأوطان؛ لا ولادات شرعية هنا، فابنا جاد الحق كلاهما ليسا من صلبه، وهو ذاته يجهل أباه، إنه شخصية على حافّة التبخّر والعدم، وكأنها تاريخ لبلد وحقبة تتلاشى، أو تاريخ لنظام بضحاياه وقتلته ومهرّجيه. تاريخ يتحوّل إلى "كيس قمامة"، العبارة التي تتكرّر طوال الرواية، حين يُطلَب مراراً من زوجة جاد الحق، أن تأخذ كيس الزبالة (يقصدون جاد الحق) بعيداً عن ساحة المشفى، ليتّسع المكان لعبور القتلى والجرحى، لعبور ضحايا التاريخ.
"خمّارة جبرا" حقل ألغام، يأخذك إليه نبيل ملحم، عاصباً عينيك، ويدعوك للرقص، من دون أن يعطيك وعداً بعدم خسارة أطرافك، أو تهشّم عظامك كما عظام جاد الحق جاد الله، كما عظام سورية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبعد وأقرب ما تكون
بقدر ما تتقاطع براءة جاد الحق جاد الله، الشخصية الرئيسية في "خمّارة جبرا"، مع براءة استقلال سورية، يتقاطع تشوّهه المستمر مع تشوّه سورية الإنسان والبلد، وبقدر ما تبدو السياسة حاضرةً في الرواية، بقدر ما تبدو هامشية، فـ "خمّارة جبرا" أبعد ما تكون عن الرواية السياسية، إنما السياسة فيها مجرّد خلفية للمواقف الفلسفية والقراءة الوجودية، لقيم الحب والذاكرة، والنسيان والموت.
اقرأ أيضاً: الفن السوري.. وتد أخير في خيمة تنهار