ناصر حسين.. كائنات تنتظر في العزلة

09 يناير 2019
(تفصيل من إحدى لوحات المعرض)
+ الخط -

في سنة 2010، أقيم في أحد أجنحة "المتحف الوطني" بدمشق معرض مشترك كبير باسم "دمشق - باريس رؤى متبادلة"، وقد ضمّ عدداً لا بأس به من الوجوه المعروفة في المشهد التشكيلي السوري، ألِفنا أعمالهم، بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين الأجانب.

لكن ما لفت نظرنا أكثر من غيره من أعمالٍ معروضةٍ لوحةٌ لا يزال لونها، الأسود المائل إلى الرمادي، الطاغي فيها عالقاً في الذاكرة. كانت تحمل توقيع ناصر حسين. اللوحة تقدم ثلاث قطط تشغل حيزاً صغيراً فيها بضربات معدودة لريشة خفيفة الحركة تعرف طريقها جيداً. كان المشهد يبدو لنا كسبورة سوداء رسم عليها تلميذ حاذق وخرج من الصف عند نهاية الدوام المدرسي ليفاجِئ بها معلمتَه صباح اليوم التالي.

تستطيع أن تميّز هذا العمل من بين كم كبير من الأعمال المعروضة التي اعتدنا على مفرداتها وعلى مواضيعها. فالفنان السوري ناصر حسين (حلب، 1971)، هو من القلة التي درست في الغرب وحملت منه زاداً معرفياً أصيلاً، فإلى جانب تعميق خبرته التقنية، تشبّعت عينه من حضارته وفنّها، ومما يجري من حوله في مجال التصوير، على عكس كثيرين ممن عادوا من هناك ليكرّروا مواضيع وأفكار وتقنيات أساتذتهم أو من سبقوهم من فنانين محليين.

بعد أن درس الفنان السوري التصوير والرسم في "كلية الفنون الجميلة" بدمشق، غادر العاصمة السورية سنة 2002 بمنحة ألمانية ليدرس الفن في ألمانيا، أولاً في "جامعة زيغن "على يد البروفيسور هيس، المصوّر والحفار، ومن ثم في مدينة دوسلدورف حيث أكمل دراسته في أكاديمية الفنون على يد البروفسور أنتسينغر، وهو مصوّر وغرافيكي ونحات نمساوي الأصل، وأحد الوجوه المعروفة التي أسّست في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ما يدعى في ألمانيا والنمسا بـ"الوحوش الجدد"، تيمّناً بجماعة الوحوش التي عرفتها فرنسا في بداية القرن العشرين. ظل حسين بعيداً عن عنف بعض مشاهد معلمه وأجوائها، لكنه أخذ عنه حرفة حضور الألوان الحوارية وفهمه للفضاء وجرأة حضور المفردات فيه.

عاد حسين من ألمانيا إلى دمشق سنة 2006، ليمضي فيها سبع سنوات قبل أن يغادر مجدداً إلى ألمانيا، إلى برلين تحديداً هذه المرة، العاصمة التي صارت قطباً من أقطاب الثقافة الأوروبية.

وبعدما عرفنا في دمشق بعضاً من أعماله التي اجتذبتنا، تعرّفتُ عليه شخصياً في برلين، فصارت زيارة مرسمه فرضاً محبباً لنا. وكانت زيارتنا الأخيرة له مناسبة لنقف على تحضيراته لمعرضه المقبل والذي يفتتح غداً في "صالة أجيال" البيروتية. وعندما سألناه عما إذا كان هناك عنوان للمجموعة أو بالأحرى للمعرض، أجاب بالنفي. وهل من عناوين للوحات؟ لا أيضاً... كما كان الحال في معرضه الشخصي الأخير "في بيير بوليتس سال" (قاعة موتسارت) البرلينية في السنة الماضية.

حوالي 20 عملاً منفذاً بالأكريليك على القماش ستُعرض على الجمهور اللبناني، منها نرى فتاة تقف أمام المرآة، رجلاً واقفاً، امرأة تصعد الدرج، امرأة مستلقية تحت مروحة في سقف المكان، وغيرها.

في مجمل الأعمال التي عاينّاها، منجزة أو في طور الانتهاء من العمل فيها، نجد أن الموضوع يتمحور حول شخص واحد وحيد. أحياناً قد نجد هذا الشخص في حالة حوار مع شيء ما، مرآة أو درج أو مروحة كما ذكرنا، أو مع حيوان أليف، قط أو كلب ونادراً ما يكون مع شريك أو ند له.

يحيط الفراغ بأبطاله، فلا نستطيع تحديد هوية المكان، كما لا شيء يشي بالزمن، لا قطع الملابس ولا شكل المرآة البيضوي. أما مروحة السقف التي تستلقي تحتها فتاة فهي قديمة بعض الشيء، مما كنا نجده في بيوتنا أو أمكنة العمل قبل أكثر من عشرين سنة، حنين لزمنه الجميل الذي يفتقده ربما هنا تحت غيم برلين. هذا الإهمال المتعمد لعامِلي الزمان والمكان ربما هو تكثيف للوحدة أيضاً، الوحدة أو العزلة أو الغربة التي فاجأته أو كل هذا مجتمعاً. ويكرّس حسين هذا الإهمال للتفاصيل فلا يضع عناوين للوحاته، فهو يجد عملية العنونة عملية تحد من متعة الاكتشاف والمشاركة في صنع العمل، كما تؤطر العمل، المشغول في الأصل على حرية الحدود.

في برلين، يصوّر الفنان السوري ذكرياته وهو بعيد عنها. وإن قلنا يصوّر هنا فهي للتأكيد على تمكّنه من المادة التي يعمل بها وعلى تمسّكه بتقاليد التصوير وهو من القلة التي نراها تمارس هذا الفن في بلده الأم كإلياس الزيات ونزار صابور وغيرهما. فلوحته هي نتيجة دأب وأناه تصنعها الفرشاة على مهلها بحنكة، لا تزيدها الضربات السريعة أحياناً، والتي قد تربك المتلقي، إلا ألقاً.

في أعماله هذه، يروي لنا الفنان حكايات غير مألوفة، لأشخاص يمارسون الحركات البدائية أو الساذجة في وحدتهم. الوحدة التي تأكل النساء من حوله، النساء اللواتي يتخيلهن ينتظرنه في مخادعهن. هو، الشخص الذاهل كجذع شجرة في غابة لا شجر فيها.


* فنان سوري مقيم في ألمانيا

المساهمون