ناس أصليّون

09 اغسطس 2017
محاولة أخيرة... (العربي الجديد)
+ الخط -

واجهات محال ذلك الحيّ البيروتي شبه فارغة، في حين بهتت ألوان البضائع المعروضة فيها. أمّا بعضها، فقد فرغ كلياً وعُلّقت على زجاجه أوراق بيضاء كُتِب عليها "برسم الإيجار" أو "برسم الاستثمار" أو "برسم البيع". قلّة منها فقط ما زالت تصرّ على الصمود.

معالم كثيرة تبدّلت في الحيّ حيث تقع المدرسة التي ارتادتها طوال أحد عشر عاماً. المدرسة كذلك مهدّدة بإغلاق أبوابها. قبالتها، فُتِح محلّ ألبسة جديد في المكان نفسه حيث كانت مكتبة جميل. الأخير أغلق باب رزقه بعدما راح أهل المنطقة يقصدون مكتبات المتاجر الكبرى لشراء قرطاسيّة أولادهم وقد باتت بضائعها تجذبهم. جميل لم يعد في مقدوره تأمين أحدث صرعات اللوازم المدرسيّة، فاختفى من الحيّ من دون سابق إنذار مع ما كسد لديه من حقائب وأقلام ودفاتر ومجلّات. دياب سبقه بأعوام، ليخلو الحيّ كليّاً من المكتبات. ومحلّ الألبسة الجديد، هل يصمد طويلاً؟

سناء تغلق قريباً محلّ العطور الذي لطالما أعالها وعائلتها. قبل نحو ثلاثين عاماً فتحته، فكان أوّل محلّ من نوعه في الحيّ ومقصداً لأهله. اليوم، لم تعد مبيعاتها تكفي لتسديد بدل الإيجار. محلات العطور الكبرى آخذة في استقطاب هؤلاء الذين كانوا في يوم زبائن دائمين لها. وتعرض بضائعها للتصفية، خائبة. أمّا خسارتها الكبرى فسنواتها الثلاثون التي تخلّفها في ذلك المحلّ بعدما تطفئ أضواء لافتته.

من أحد الأزقّة المتفرّعة من ذلك الحيّ، اختفى الرجل المسنّ الذي لطالما راقبته في طريقها إلى المدرسة، على مدى أحد عشر عاماً. لم تعرف في يوم اسمه، غير أنّها حفظت ملامحه جيّداً. منذ ساعات الصباح الأولى، كان الرجل يجلس على كرسيّ واطئ أمام محلّه. في ذلك المحلّ الذي ورثه عن أبيه، كان يبيع كلّ شيء. واجهة محلّه كانت مليئة بالخردوات المختلفة وبألعاب رخيصة الثمن والجودة وبألواح صابون وبأوراق هدايا وبأدوات زينة وغيرها الكثير.

على مقربة من المحلّ الذي أسدل بابه الحديديّ الجرّار نهائياً، كان ثمّة محلّ حلويات. ما زالت تسترجع مذاق مثلّجات الشوكولاتة، كلّما مرّت في ذلك الزقاق. وما زالت تلمح لافتته البنيّة التي تغيّرت اليوم، إذ حلّ مكانه مخبز، ما هو سوى فرع من سلسلة كبرى. في ذلك المخبز، تُباع مثلّجات شوكولاتة رديئة المذاق.

وتختفي تلك المحلات الأصليّة فيختفي ناسها الأصليّون. هؤلاء ليسوا أفضل حالاً من الشعوب الأصليّة التي تَبيد حول العالم والتي يُخصَّص لها يوم للمطالبة بالحفاظ على ثقافاتها وهويّاتها وتميّزها. تلك الشعوب الأصليّة يُحتفى بها اليوم في التاسع من أغسطس/ آب، فيما يسأل ناس ذلك الحيّ الأصليّون عمّن يردّ لهم اعتبارهم ويحفظ لهم حقوقهم.


المساهمون