نادي الغلمان المحرومين في كوبري الليمون!

16 ابريل 2019
+ الخط -
بعد سنوات طويلة من الشكاوى الصحفية المتواصلة من انتشار المتسولين والمتشردين في شوارع القاهرة ـ نشرنا نموذجاً لها في زاوية سابقة بعنوان (أنقذوا مصر من المتسولين والبائسين) ـ ومن المطالبات الملحة بعدم الاعتماد على الحكومة في "مكافحة التسول والتشرد"، واللجوء إلى مبادرات أهلية تنقذ المحرومين والبؤساء من حرمانهم وبؤسهم، وتنقذ مصر من تأثيرهم الضار على سمعتها، نشرت مجلة (المجلة الجديدة) في عددها الصادر بتاريخ 1 يناير 1939 تقريراً عن مبادرة أهلية جديدة في مجال محاربة الفقر والحرمان، واختارت لتقريرها عنواناً درامياً هو (نادي الغلمان المحرومين في كوبري الليمون بالقاهرة).

بدأت (المجلة الجديدة) تقريرها كالآتي: "في الشهر الماضي أولمت جمعية الشبان المسيحيين في القاهرة وليمة عشاء ليست فاخرة في طعامها ولكنها جليلة سامية في مغزاها، إذ كان العشاء عدساً لا أكثر، وقد كان ضيف الشرف الأستاذ مصطفى عبد الرازق وزير الأوقاف، وقد شرحت الغاية من هذا العشاء بأنها جمع التبرعات لما يسمى "نادي الغلمان المحرومين في كوبري الليمون"، وهذا النادي من نوع جديد لا نذكر أنه وجد قبل الآن في بلادنا، فإننا نعرف كلنا شيئا عن ملاجئ اليتامى وأبناء السبيل التي تجمع الأولاد والبنات الذين لا عائل لهم وتطعمهم وتكسوهم وتعلمهم صناعات، ونعرف كذلك عن التكايا التي تجمع العجزة ونعرف أشياء اخرى عن الإصلاحيات وهي التي يرسل إليها الغلمان الأشقياء والرجال الذين تعددت سوابقهم. غير أن نادي الغلمان المحرومين في كوبري الليمون يختلف عن تلك المعاهد اختلافا بينا، فهو على مثال النوادي الرياضية والأدبية المعروفة للشبان والرجال في أنظمتنا ولكنه لطبقة الأولاد الصغار الخارجين من أوساط فقيرة وجاهلة، وأعضاؤه يدفعون اشتراكات وإن لم تكن بالمليمات لا بالقروش ولا بالجنيهات لتكون النسبة محفوظة بينها وبين حالة هذه الطبقة، ولم يشأواضعو نظامه أن يجعلوا الاشتراك فيه بالمجان حتى يبعدوا عنه صيغة الملاجئ والتكايا ويربوا هؤلاء الصغار المفاليك على عزة النفس والشعور بالكرامة الشخصية والإباء".

كان رئيس تحرير المجلة المفكر سلامة موسى قد كتب في افتتاحية نفس العدد مطالباً بالاهتمام بالسياحة، وفي معرض كلامه عن إصلاح المجرمين قال إن "المجرم ليس شريرا بطبيعته، وإنما هو وقع في الشر بقوة البيئة المحيطة به، ولذلك فإن إصلاحه مرجو في كل وقت بإصلاح هذه البيئة أي بتعويده عادات جديدة"، وهو كلام ستجد له صدى في تقرير المجلة عن "نادي الغلمان المحرومين في كوبري الليمون"، الذي استفاض في الحديث عن المهمة المرجوة من النادي الوليد قائلاً: "ولا يجهل أحد نوع الأخلاق والعادات التي ينشأ عليها صبيان حوانيت الصناعة كالنجارة والحدادة والسباكة وغيرها، وصغار العمال وتلاميذ المدارس الالزامية الفقراء وهي الطبقات التي يتألف منها جميع أعضاء النادي، فإنهم محرومون جميعا من وسائل التهذيب والتربية الحقة، عاطلون من الصفات التي تجعلهم يشبون رجالا نافعين لأنفسهم ولوطنهم، فمهمة النادي هي أن تنتزع منهم العادات التي يوشك الوسط الذي نشأوا فيه أن يطبعها فيهم ويحل محلها عادات أخرى حسنة، وذلك بواسطة الإرشاد والقدوة والعطف والتدريب العملي عن طريق الألعاب الرياضية والاجتماعات، وكانت العادة الأولى التي أكسبتهم إياها عادة النظافة فأنشأ لهم حماما ومغسلا، فمتى وصلوا إلى النادي خلعوا ملابسهم القذرة وغسلوها ونشروها ولبسوا ملابس اللعب، وهذه يقدمها لهم النادي مجانا وبعد ما ينتهون من لعبهم يغتسلون في الحمام ويرتدون ملابسهم النظيفة، وقد عانى روادهم صعوبات جمة قبل أن حببوا إليهم هذه العادة نظرا لما ألفوه في بيوتهم من الاهمال والسكون إلى القذارة، ومن أدلة نجاح النادي في ذلك أن غلاما حديث العضوية لبس مرة ملابس غلام آخر خطأ فأبى هذا أن يلبسها قبل أن تغسل ثانية بحجة أن العضو الجديد قذر لأنه لم يتعود الاستحمام!".

في نفس العدد الذي أعلنت فيه المجلة عن إنشاء "جماعة الفن والحرية للدفاع عما يسمى عند الدول الديكتاتورية بالفن المنحط"، والتي ضمت ضمن مؤسسيها فؤاد كامل وأنور كامل وألبير قصيري وجورج حنين وحسن صبحي ومحمد سيف الدين ومارسيل ندا وأحمد فهمي وفاطمة نعمة راشد وغيرهم، قررت (المجلة الجديدة) أن تبشر المهذبين من قرائها بأن نادي الغلمان المحرومين لن يقتصر فقط على الاهتمام بنظافة الجسد، بل سيهتم أيضاً بنظافة اللسان والسلوك، وهو ما جاء الحديث عنه في نص التقرير كالآتي: "والخضوع للنظام عادة أخرى كسبها هؤلاء الغلمان فقد كان من طباعهم الخصام واحداث القلاقل والاشتباك مع بعضهم في مشاجرات لاتفه الأسباب فأسلس النادي قيادهم وألان شماسهم وعودهم الطاعة للحكم في ألعابهم فأصبحوا يستطيعون أن يلعبوا التنس والبنج بونج والكرة، وغلام صغير فَهِم يدير ألعابهم ويخضعون لحكمه. وأدب العبارة والكلام كان شيئا غريبا عنهم فما عرفوا في حياة الشوارع غير الألفاظ النابية والشتائم كسائر الذين هم من طبقتهم، أما النادي فما زال بهم يتعهدهم بالنصح والإرشاد حتى استطاع أن يطهر ألسنتهم بقدر الإمكان من التفوه بما لا يليق وإذا اختلف اثنان منهم فبدلا من أن يتفاوضا السب والقذع يلجآن إلى فض الخلاف بالنزول إلى حلبة الملاكمة بالقفازات ثم يتصافحان بعد ذلك، وقد انتزع النادي من هؤلاء الغلمان رذيلة الميل إلى السرقة فأصبحوا اليوم يألفون الأمانة ولم تحدث في خلال المدة التي مضت من يوم افتتاح النادي غير ثلاث سرقات".

في ختام تقريرها، أشارت (المجلة الجديدة) ـ التي كانت تصدر من مقر يقع في حارة جاد بشارع الفجالة بالقاهرة بالقرب من كوبري الليمون ـ إلى أن علي أفندي رئيس النادي حرص هو ومساعدوه على أن يغرسوا عادات أخرى في الغلمان المحرومين "كحب الطائفة والإيثار أو الروح العام واعتراف بالجميل وسواها مما لم يكن لهؤلاء الغلمان سبيل إليه لولا هذا المعهد التهذيبي الحديث الذي تحتاج مدينة كالعاصمة إلى أمثاله في كل حي من أحيائها بشرط أن يتولاها شبان يكونون مثالا في اللطف وكرم الخلق وسعة الصدر والحب والشفقة والحزم والدقة في العمل وهي الصفات التي توافرت في رواد نادي كوبري الليمون".

لا يثير الأسى والحزن أن هذه الطريقة البائسة في التعامل مع البؤس والبؤساء، صدرت عن مجلة مثل (المجلة الجديدة) كانت تمثل وقتها منبراً لعرض الأفكار التقدمية والمتحررة المفارقة لتفكير السائد والتقليدي، فلست من هواة إخراج الآراء عن سياقها التاريخي، وهي هواية مبهجة وشريرة لن ينجو من آثارها المدمرة أحد، فما يثير الأسى والحزن ويقلّبهما ويجددهما، هو أن هذه الطريقة الاستعلائية وضيقة الأفق في التعامل مع الفقر والفقراء لا زالت هي السائدة في مجتمعاتنا المهذبة، التي تنشغل بالألفاظ النابية والشتائم بوصفها جرائم تستحق التهذيب، أكثر من انشغالها بجرائم الاستبداد والظلم وغياب العدالة الاجتماعية، التي لن ينجو المجتمع من آثارها المدمرة، حتى لو فتح "نوادي للغلمان المحرومين" تحت كل كباري المدن والقرى.

.....

"انتحرت ليأسي، برجاء دفع الحساب المتأخر"
في عددها الصادر بتاريخ 5 إبريل 1984، نشرت صحيفة (الأخبار) المصرية في صفحة الحوادث والقضايا خبراً بعنوان (انتحار موظف بالمعاش عجز عن تسديد ديونه)، جاء نصه كالتالي:

"انتحر موظف سابق مقيم في فندق بمصر الجديدة، استيقظ ابنه التلميذ صباح السبت فشاهد جثة والده مدلاة من حبل بسقف حجرة الفندق الذي يقيمان فيه، تبين أنه شنق نفسه لتراكم 400 جنيه ديونا عليه، ترك الموظف رسالة وشيكا لصاحب الفندق يخبره بتسليمها لزوج شقيقته وكيل الوزارة. صرحت النيابة بدفن الجثة بعد تشريحها.

تبين أن الجثة لموظف ساق عمره 62 سنة، ترك خدمته وتفرغ لنزواته مستغلا ثراء أسرته، وقد عُثر في الحجرة على 45 قرشا وبجوارها رسالة بخط يده موجهة إلى صاحب الفندق جاء فيها "انتحرت ليأسي من الحياة، رجاء الاتصال بزوج شقيقتي لدفع الحساب المؤخر"، ومع الرسالة وجد المحققون شيكا بمبلغ 180 جنيها، وحين سألوا ابن المنتحر الوحيد البالغ من العمر عشر سنوات، قال لهم إن والده "كثيرا ما أخبره برغبته في الانتحار ولكنه لم يكن يعتقد أنه جاد في رغبته خاصة أنه كان هادئ الطباع معه ويغمره بحنان غير عادي".

أشارت تحقيقات النيابة إلى أن الموظف المنتحر دخل في حالة اكتئاب بعد أن توفيت زوجته، وتركت له ابنهما الوحيد، وأنه تزوج بثلاثة بعدها لمعاونته في تربية الابن، ولكنهن لم يحترمن رغبته فانفصل عنهن واحدة بعد الأخرى، وتدهورت علاقاته مع أفراد أسرته "بعد أن ساءت حالته الاجتماعية لإفراطه في الإنفاق على نزواته التي أدت به إلى الإفلاس واضطراره إلى بيع نصيبه في فيلا مملوكة لأسرته، ثم أقام في الفندق منذ شهرين ونصف"، طبقاً لما نشرته الصحيفة.

في نفس العدد، ولكن على صفحتها الأولى، نشرت صحيفة (الأخبار) خبراً عن شاب مصري يمتلك سبعة جزر في اسكتنلدا، طبقاً لما نشرته صحيفة (الديلي ميل) البريطانية) التي قالت إن شابا مصريا يدعي أنسي ناتهان، يبلغ من العمر 28 عاما، قد اشترى ضيعة جبلية في جنوب ويلز تبلغ قيمتها 250 ألف جنيه استرليني إلى جانب اثنتين من الجزر النائية الواقعة خارج الساحل الاسكتلندي، وقالت الصحيفة إن الشاب المصري يملك 7 جزر اسكتلندية إلى جانب منجم رصاص بريطاني لم يستخدم بعد، وأضافت أنه لم يشاهد هذه الجزر بعد، وأن "تنمية وتطوير الضيعة التي اشتراها مؤخرا يعتبر أمرا مستحيلا بسبب حقوق الرعي التي تكفلها السلطات البريطانية ولكنه قال إنه سيتجول فيها سيرا على الأقدام".

حين طالعت الأعداد التالية من الصحيفة وعلى مدى أشهر من عام 1984 لم أجد أي متابعة صحفية للخبرين المثيرين، فلم أعرف من هو ذلك الشاب المصري المحظوظ ذو الاسم الغريب الذي لم أجد له أثراً على الإنترنت، والذي لم يقل لنا أحد ما هي علاقته أصلاً بمصر أو حتى باسكتلندا وويلز، كما لم أعرف أيضاً ما الذي جرى لذلك التلميذ المسكين الذي فجعته الدنيا بانتحار أبيه، وهل وجد من يعينه على همه اللعين؟ وبرغم أن الخبرين كانا يستحقان متابعة صحفية، تتسق على الأقل مع طبيعة وأسلوب صحيفة (الأخبار)، إلا أن ذلك لم يحدث، لأن (الأخبار) كانت كغيرها من الصحف منشغلة أكثر بمتابعة إنجازات قائد العهد الجديد حسني مبارك الذي سيقود سفينة الوطن إلى بر الأمان والرخاء والديمقراطية، لأن الانشغال بأخبار القائد يمكن له أن يضمن بقاء مسئولي الصحيفة في كراسيهم، حتى وإن كره ذلك قراؤهم، ومن يدري لعل الأيام تحمل لنا يوماً ما الإجابة على تلك الأسئلة، يقدمها لنا صحفي ينشغل برضا قرائه أكثر من رضا رؤسائه.

.....

وختاماً مع الكاريكاتير:
بمناسبة حلقات (صفحات من تاريخ الإساءة إلى سمعة مصر)، أشارك معك هذا الكاريكاتير الذي نشره الفنان رؤوف عياد في مجلة صباح الخير في فبراير 1977:



وبمناسبة مهزلة الاستفتاء على التعديات الدستورية، أهديك هذا الكاريكاتير للفنان بهجت عثمان:



وبمناسبة موسم الفسيخ، نجاكم الله من أخطاره، أهدي أصدقائي من عشاق اللحوم الآمنة هذا الكاريكاتير للفنان حجازي:



وبمناسبة استمرار الكذب على الشعب باسم الحرب على الإرهاب، أهديك هذا الكاريكاتير للفنان بهجت عثمان:



وبمناسبة وبدون مناسبة، أختم زاوية هذا الأسبوع من (فيتامينات للذاكرة) بهذه القصيدة للفنان حجازي:



605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.