يسأل بعض الناس حين يصادف واحداً ممن عرفوا الفنان ناجي العلي إن كان على معرفة وثيقة به، وفي مناسبات عديدة تشهد السؤال ذاته قاعات ومنتديات في العديد من المدن والقرى العربية، كأن السائل يودّ أن يستوثق من شيء ما.
جوهر التساؤل وسببه هو: من الذي يقف وراء اغتيال هذا الفنان؟ الكلُّ، وبعد 29 عاماً، ما زال يسأل هذا السؤال، ويبحث عن إجابة، وكأن ناجي ما زال يرقد طيلة شهر كامل من 22 تموز/يوليو إلى 29 آب/أغسطس في عام 1987 في غرفة العناية المركزة، يحيط به أبناؤه وأصدقاؤه لا يريدون أن يرحل بهذه البساطة، برصاصة الشيطان، أمين المكتبة الأعمى الذي لطخ صفحات كتاب "الكوميديا" بالسم حتى لا يستطيع أحد تعلّم التحرّر بالضحك والسخرية منه، كما أخبرنا أمبرتو إيكو.
ولأن فن الكاريكاتير الذي منحه ناجي وظيفة غير وظيفة التسلية، وظيفة نزع الأقنعة وتعرية المسوخ الذين ارتدوا ملابس بشرية، كان فناً محرّراً من الخوف من المسوخ، يؤلب الفقراء على مستغليهم، والمشردين على من شرّدهم من وطنهم، ويوجّه أنظار الفلسطينيين جيلاً بعد جيل نحو فلسطينهم، وهنا مقتل صفقات الفاسدين والأكولين والزاحفين.
لم يكن حدث الاغتيال لغزاً بالطبع، ولكنه أصبح كذلك لأن وسائط الإعلام التي تأتي على ذكره سنة بعد أخرى ما زالت تتجنّب الإجابة. وحين يتناول حتى فيلم وثائقي أو سينمائي، حياة وأعمال محرّر المخيلة والوعي الكبير هذا، نجده ينزلق بعيداً عن الإجابة، فيقول معدُّ فيلم "ممنوعون" الوثائقي مثلا في النهاية: "مهما كانت الجهة التي تقف وراء اغتيال الفنان، فنحن كلنا نتحمل جانباً من المسؤولية!" لماذا؟ لأنه، حسب زعم من أعدوا هذا الفيلم: "كان يجرح ويهاجم ويندفع ونحن نصفق له، وحين واجهته الرصاصة كان وحيداً".
حقيقة الأمر، أن أي فنان صادق ونزيه لا يستطيع إلا أن يكون وحيداً في مواجهة من هذا النوع، ليس لأن سالكي طريق الحق قلائل، بل لأنهم معرّضون أيضاً للنبذ وتشويه السمعة والاغتيال إن لم يستطع حرّاس الزائف والمصطنع إسكاتهم. ويتعرّض من يقف معهم إلى كل صنوف التضييق عليهم في غدوّهم ورواحهم. ثم هل كان ناجي "يجرح" و"يهاجم" و"يندفع"، أم كان يخوض معركة يدافع فيها عن الاستقامة والنقاء في مواجهة الانحراف السياسي والثقافي والاجتماعي الذي يلم بالحياة العربية؟
هذا الكلام الذي يتجاهل أن ناجي كان يبتدع جمهوراً، لا يضيف جديداً إلى "الشعر" الذي ما زال يقال كلما تذكرناه، ولا يضيف حتى البرنامج اليومي الذي تبثه شاشة قناة "الميادين" في هذه الأيام، ويتحرّك فيه شخوص بعض مما تنتقيه من رسومه، شيئاً. هذه الطرائق في تذكر ناجي كلاماً وتصويراً، تكاد تقول إن كشف القناع عن وجه من اغتال هذا الفنان ليس مهماً. ولكن هل إطلاق مثل هذا الكلام يحمل أقل قدر من الأهمية؟
هناك طرف محدّد أمر بإطلاق الرصاص على المحرِّر الذي علّمنا كيف ننظر بعيون طفل، فنكتشف أن الإمبراطور عار بلا ثياب. ولدينا مطالعة المدعي العام البريطاني حين عقدت محكمة لمحاكمة القتلة آنذاك، من فرّ منهم ومن وقع بيد الشرطة البريطانية، ولم تكلف أي جهة عربية، سواء كانت مركز دراسات أو صحيفة أو فريق أفلام وثائقية، نفسها عناء الذهاب وطلب نسخة من تلك المطالعة لقاء بضعة جنيهات. أليست مثل هذه المطالعة أثمن وثيقة يمكن أن تمنح الذكرى قيمة؟
لقد اغتالت ناجي العلي حالة ثقافية/ سياسية فلسطينية منحطة لها رموزها الذين ما زالوا يتقافزون حتى الآن في أرجاء المؤتمرات وعلى المنصات وعلى الشاشات، ومن المعتاد أن نسمع من أعتق ناجي رقابهم من نير العبودية يشيرون إلى هذه الرموز، أو المسماة كذلك، مندهشين: "ها هم الذين رسمهم ناجي العلي.. آه كم كانت بصيرته حادة ونفاذة". بل ومن المتداول أن يقول قارئ متابع "أليس أبو فلان الأبله ذو الكرش هذا هو ذاته الذي ظهر في كاريكاتير لناجي قبل ثلاثين سنة؟".
هل يمكن توثيق أي شيء من دون الرجوع إلى هؤلاء الناس الذين أحبوا ناجي وأحبهم، وأدركوا سر النقمة عليه، بل ومصدر الرصاصة التي اغتالته في أحد شوارع لندن؟ وهل يمكن أن تعتبر هذرة شاعر سارع، وناجي راقد في غيبوبته، إلى القول إن رسومه كانت جلداً للذات وثيقة يعتد بها؟
لو كان هذا هو ناجي فعلاً لتركه القتلة يجلد نفسه حتى مماته، ولكن هذا الذي قاموا ويقومون "بتمثيله" في المقالات أحياناً وفي الأفلام أحياناً، بدلاً منه ومن الذين عرفوه حقاً، ليس ناجي الذي أحبه جمهور واسع باتساع الوطن العربي، بل هو صورة متخيلة يبعدون بها أصابع ناجي العشرة المغروسة في عيونهم، ويمنعون عودته الى الأجيال التي لا تزال تسأل بعد عشرين سنة تسأل: "من قتله؟
كان ناجي شوكة في حلق ناثري رغوة الكلام والمتاجرين بقضية شعبه، صياداً للمنتفخة أشداقهم وهم يلتهمون الجبنة الفلسطينية بشبكة رسومه المأساوية / الساخرة. أليس من المؤسف أن لا تستطيع ثقافة جذورها أعمق امتداداً من جذور السنديان كشف جانب واحد من جوانب فن هذا الناقد الأخلاقي النادر في زمن الكثرة الكاثرة من منتجعي الماء والكلأ؛ والذي يقف مع كبار المحرِّرين في التاريخ، محرِّري الأجساد والأرواح على حد سواء؟