مي زيادة... ومأساتها

18 اغسطس 2020
+ الخط -

توفيت  الأديبة النابغة (مي زيادة) في العشرين من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1941،  عن عمر يناهز الخامسة والخمسين عاماً، وحيدة منسية. وعلى الرغم من ألمعيتها، والشهرة التي حققتها في وقت كانت المرأة العربية فيه قعيدة المنزل، بعيدة عن الاشتراك في الحياة العامّة، فإن هذه الشهرة لم تستطع أن توطّد لها مكاناً، بحيث تفرض نفسها على الناس، فتحتفل بذكراها المجلات والجرائد والإذاعة والتليفزيون كما يحدث لغيرها من الأدباء والمفكرين.

وإننا نتساءل: أيرجع ذلك إلى أنّها كانت من الكتّاب المنشئين الذين كان أدبهم يدور في قالب المقالة والخواطر النثرية كالرافعي وأغلب كتابات المنفلوطي؟ أيرجع إلى أن كل اهتمامها الأدبي انصبّ على تصوير خوالج ذاتية، وأنها كانت مهتمة - إلى جانب ذلك - بقضية المرأة العربية، في فترة أصبحت الآن تاريخاً، بعد أن شاركت المرأة في الحياة العامة هذه المشاركة الفعّالة في مجالات الحياة المختلفة؟

ربما تكون الإجابة عن هذين السؤالين هي السبب، فغنى المرحلة التي عاصرتها (مي) قد أبرز كثيراً من الكتّاب والمفكرين، ولم يبقِ التاريخ القريب منهم إلا العمالقة الذين تجاوزا شكل المقالة والخواطر الذاتية والقضايا العامّة الآنية فكتبوا الدراسات والأبحاث كما كتبوا في النقد التطبيقي، وفي الترجمة المحللة لشخصيات تاريخية كبيرة، وفي القصة والرواية كما فعل طه حسين والعقاد، وظلّ في الحدود الزمنية لهذا الجيل كتاب مرحليون، كان لهم أثرهم في هذه الحقبة من تاريخنا الأدبي، ومنهم الرافعي والمنفلوطي.

ولدت "ماري إلياس زخور زيادة" في الناصرة عاصمة الجليل في فلسطين، في 11 فبراير/ شباط 1886  من أب لبناني يعمل معلماً، وأم فلسطينية من الناصرة، ولم ينجبا إلا ابنتهما هذه، فكانت (مي) طفلتهما الوحيدة، اشتغل الأب بالتعليم في هذه المدينة الصغيرة التي نالت شهرة لأن المسيح عاش فيها صباه وفترة من شبابه ومن هنا أصبحت مزاراً معروفاً.

عاشت (مي) ثلاثة عشر عاماً فيها، وقضت أربعة أعوام في معهد للراهبات، ثم انتقلت إلى لبنان حيث قضت خمسة أعوام في معهد للراهبات أيضاً في قرية (عينطورة)، وليس من شك في أن جو المعاهد الدينية - وكان غالباً في أديرة والمدرّسات راهبات - قد ترك أثره في نفسها الحساسة، خاصة أنها كانت تعيش بوحدة قاسية، فهي وحيدة والديها.. وهي وحيدة في الدير الذي تغادره الطالبات في المناسبات كالأعياد، وها هي (مي) تسجل في مذكراتها صورة لهذه الفترة من حياتها.

بموت يعقوب صرّوف مرشدها وصديقها عام 1930، ثم موت أبيها الذي تلاه موت أمها، وموت حبيبها جبران بعد هؤلاء اشتدت أزّمة وحدتها، فاعتزلت الناس، وأدمنت التدخين، فاهتزّت أعصابها وانهارت نفساً وجسداً

 

تقول على لسان (عائدة)، وهو الاسم الذي كتبت به المذكرات ونسبتها إليه: (أخذت "عائدة" تكتب، ولا سيما أن عيد الميلاد قد دنا، وأخذت أيام العام الأخير تسرع نحو هوة العدم، كانت تكتب لأن رفيقاتها الصغيرات أخذن يغادرن الدير ليصرفن الأسبوع بين أهلهن المقيمين في المدينة أو ضواحيها. وعائدة من بلدة بعيدة كل البعد، لذلك لا يزورها من ذويها في العيد أحد. وستقضي هذه الأيام وحدها بين أولئك النسوة الصائمات المصليات الزاهدات، اللائي كانت تشعر بأن منهن غير السعيدات رغم امتثالهن الظاهري، فتودّع رفيقاتها الواحدة بعد الأخرى متمنية لهن عيداً سعيداً. حتى إذا مضت آخرهن انطلقت إلى الكنيسة وحجبت وجهها بيديها وأجهشت بالبكاء، وكان مساء العيد حزيناً، وجوّه مكفهراً، والدير صامتاً كتوماً، مرمريتا كالمقابر القديمة يضن بخفاياه، وكان لعائدة يومئذ أن تفعل ما شاءت دون قانون يقيّدها فتقضي أكثر أوقاتها في غرفة الموسيقى المنفردة في أطراف الحديقة تخيّم عليها الأشجار ذات الغصون العارية. هنالك جلست طويلاً والسماء تمطر رذاذاً، ثم نهضت إلى البيانو وما كادت تمسّ أصابع العاج حتى سحبت يدها قائلة: ( ما أشدّ برد البيانو!)، ثم أضافت: بل البرد في يدي، البرد في روحي، البرد في وحدتي وغربتي وألقت برأسها إلى خشب الآلة الموسيقية، على أن يداً لطيفة اجتذبتها مداعبة شعرها وخدّها، فصرخت الفتاة قائلة (اتركني)، لا أريد أن يشفق عليَّ أحد لأني لا أطلب الشفقة..).

وعادت (مي) إلى الناصرة بعد أن انتهت من دراستها في (عينطورة). عادت لتعاني فراغاً كبيراً حاولت أن تبعده بقراءات في الأدب الفرنسي، فقد كانت تجيد الفرنسية وبعضاً من اللغات الأجنبية الأخرى. إلّا أّنّ هذه القراءات قد توقفت زمناً لانتقال الأسرة إلى القاهرة عام 1908.

سافرت الأسرة إلى هذه المدينة التي كانت مناراً أدبياً وفكرياً على الساحة العربية الكبيرة، وهناك عمل أبوها في الصحافة فترة، أصدر بعدها جريدة (المحروسة)، وفي مصر تفتّحت مواهب (مي) فابتدأت تكتب في جريدة أبيها، وأخذت كتاباتها تظهر بعد ذلك على صفحات الجرائد والمجلات المصرية كما كثر وقوفها خطيبة أو محاضرة في النوادي المختلفة، وفي عام 1911 أصدرت ديواناً باللغة الفرنسية سمته (أزاهير حلم) واختارت اسماً مستعاراً هو (ايزيس كوبيا)، إلّا أنّ (مي) كشخصية أدبية لم تعرف على نطاق الصعيد الأدبي إلا بعد أن استقبلت كبار الأدباء والمفكرين في منتداها الأدبي بمنزلها كل يوم ثلاثاء.

كانت (مي) في هذه الفترة شابّة متألقة، جميلة، لبقة تعرف كيف تدير الحديث، وكيف تجالس صفوة المفكرين والمثقفين المصريين والعرب الذين كانوا يزورون القاهرة. لقد كان يوم الثلاثاء عيداً للفكر، ولقاء خصباً للأرواح الخصبة.. لطفي السيد، طه حسين، عباس العقاد، حافظ إبراهيم، الرافعي، إسماعيل صبري، البشري، ولي الدين يكن، منصور فهمي، مطران، مصطفى عبد الرزاق، المازني، وغيرهم.

يقول إسماعيل صبري ذاكراً يوم الثلاثاء في بيتين اشتهرا بعد ذلك:
روحي على دور بعض الحي هائمة
كظامئ الطير تواقاً إلى الماء
إن لم أمتّع بمي ناظري غداً
لا كان صُبحك يا يوم الثلاثاء

ويصف طه حسين هذا المنتدى الأدبي.. يقول: "كان الذين يختلفون إلى هذا الصالون متفاوتين تفاوتاً شديداً، فكان منهم المصريون على تفاوت طبقاتهم ومنازلهم الاجتماعية، وعلى تفاوت أسنانهم أيضاً، وكان منهم السوريون، كان منهم الأوربيون على اختلاف شعوبهم وكان منهم الرجال والنساء، وكانوا يتحدثون في كل شيء، ويتحدثون بلغات مختلفة بالعربية والفرنسية والإنكليزية خاصة، وربما استمعوا لقصيدة تنشد أو مقالة تقرأ، أو قطعة موسيقية تعزف، أو أغنية تنّفذ إلى القلوب.

وقد أتيح لي أن أكون من خاصة (مي) بفضل الأستاذ لطفي السيد فكنت أتأخر في الصالون حتى ينصرف الزائرون جميعاً، ولم يبق منهم إلا الأستاذ لطفي السيد، ومحمد حسن نائل المرصفي -رحمهما الله- وأنا.. وفي ذلك الوقت كانت (مي) تفرغ لنا حرّة سمحة، فنسمع من حديثها أو إنشائه ومن عزفها أو غنائها".

وعن براعتها في الحديث كأديبة وسيدة، يقول العقاد: "لا يحضرني مثل لذلك أدل على البراعة من إدارتها الحديث في مجلس حضره نحو ثلاثين كاتباً وأديباً ووزيراً للتشاور في الاحتفالات بالعيد الخمسين للمقتطف، وكان اجتماع هذا المجلس عندها في إبّان المنازعات السياسية التي وصلت بكثير من الكتاب والأدباء إلى حد التقاطع والعداء.. قضينا عندها ساعتين نسينا  فيها أن في البلد أحزاباً أو منازعات سياسية بفضل براعتها في التوفيق بين الآراء والأمزجة، وقدرتها على توجيه الحديث إلى أبعد الموضوعات عن الخلاف والملاحات".

وعلى الرغم من أن ميّاً أثارت مشاعر زوّارها وإعجابهم، ومنهم من أحبّها، ومنهم من ادعى أنّها تحبّه، فإن أحداً منهم لم يجرؤ على مفاتحتها في الزواج منها، ولا نستثني غير المتزوجين.. لا لأنها مسيحية، وأغلب المعجبين بها مسلمون، ولكن لأن ظروف المجتمع المصري الشرقي في ذلك كانت تقف سداً قوياً أمام هذه الفكرة.

خطرت لي هذه الخاطرة وأنا أشاهد في التليفزيون السوري مسلسلاً عن حياة عباس العقاد سماها كاتبها عامر العقاد -والعقاد عمّه - (العملاق). وقد تعرض الى علاقة العقاد بمي، وإذا بالعقاد يبدو في صورة المحب المتحفّظ، والرجل الجريء في مخاطبة النساء، وإذا بمي عاشقة مولعة تذرف الدموع وتطارد العقاد باكية ذليلة.. وهنا وقفت حائراً، فالمعروف أن الرافعي كان يُحبها ويدّعي أنّها تُحبه، ويقول بعض من كتبوا عن العقاد أنها كانت تحبّه، أما زكي مبارك فقد كان يغص بعطف لطفي السيد على مي، ويقال إنه كان يُعمل لسانه في هذه المسألة.. ولكن الذي لا شك فيه هو أن مياً أحبت جبران خليل جبران. فرسائله دليل مادي على هذه العلاقة الروحية التي قامت بينهما ابتداءً من عام 1912 حين أرسلت (مي) خطاباً إلى جبران تعرب فيه عن إعجابها بأدبه واستمرت المكاتبات بينهما حتى قطعتها الحرب الكبرى ثم عادت بعد الحرب لتنقطع بموت جبران عام1913.

وبموت يعقوب صرّوف مرشدها وصديقها عام 1930، ثم موت أبيها الذي تلاه موت أمها، وموت حبيبها جبران بعد هؤلاء اشتدت أزّمة وحدتها، فاعتزلت الناس، وأدمنت التدخين، فاهتزّت أعصابها وانهارت نفساً وجسداً. وفي الفترة الأخيرة من حياتها ذهب الصحافي أسعد حسني بصحبة سلامة موسى لزيارتها، ولكنهما فوجئا وهي تفتح لهما باب شقّتها بامرأة نال منها الشحوب والهزال، وهدمتها شيخوخة مبكرة، فانصرفا بسرعة منعاً لإحراجها.

وقد سمع أهلها بحالتها المتردية، فجاء قريبها الدكتور جوزيف زيادة وصحبها معه إلى بيروت، وهناك أدخلوها مستشفى (العصفورية)، وهو مستشفى للأمراض العقلية.

واندلعت الحرب العالمية الثانية، وشغل الناس بأخبارها، وفي العشرين من شهر أكتوبر عام 1941 ماتت (مي زيادة) وحيدة، مكسورة الجناح والمشاعر. وقد أقيم لها حفل تأبين شاركت فيه صفوة من الأدباء، كان منهم العقاد الذي رثاها بقصيدة قال في بعض أبياتها:
أين في المحفل مي يا صحب
عودتنا ها هنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مستجيب حين يدعى .. مستجاب

خلّفت (مي) وراءها 15 كتاباً تدور كلها حول خواطر منثورة أقرب إلى روح الشعر إن لم تكنه، وأحاديث ومقالات تتناول قضية المرأة العربية وتحرّرها. وقد كانت صاحبة أسلوب شاعري شفّاف..

ولعلّنا نلمس هذه الصفة فيه حين نقرأ قولها في رثاء عصفور من عصافير الكناري:
"طائر صغير نسجت أشعة الشمس ذهب جناحيه، وانحنى الليل عليه فترك من سواده قبلة في عينيه، ثم سطت عليه يد الإنسان، فضيّقت من دائرة فضائه وسجنته في قفص كان بيته في حياته، ونعشه في مماته. طائر صغير أحببته شهوراً طوالاً، غرّد لكآبتي فأطربها، ناجى وحشتي فآنسها، غنّى لقلبي فأرقصه، ونادم وحدتي فملأها حناناً".

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.