ميلوش فورمان: رحيل السينمائي المُشاكس

14 ابريل 2018
ميلوش فورمان (Getty)
+ الخط -
المداخل إلى عالمه السينمائي عديدة ومُغرية. انجذابه إلى شخصياتٍ، بعضها حقيقي، عاملٌ على التنبّه إلى تفاصيل بيئات، وحراك جماعات، ومفاهيم يحاول تحطيمها أو كشف خفاياها أو فهمها عبر لغة الصورة. توغّله في حالات النفس البشرية أداة تفكيك للسلوك والعلاقة بالذات والآخر. الموسيقى حاضرة لا كتعبير بصري يتكامل والمسار الدرامي أو الفضاء الجمالي للنص وشخصياته فقط، بل أيضًا كشخصية تُروى عنها حكايات، كما في "أماديوس" (1984)، أو كنوعٍ فني يرتكز على الألحان والاستعراضات كبناء درامي، كما في Hair عام 1979. توقّفه عن العمل، بعد 58 عامًا من الشغل والإنتاج والمشاكسة، دافعٌ إلى التساؤل عن سرّ اختفائه، أو بالأحرى انسحابه من المشهد العام. 
ربما لهذا، يُشكِّل نبأ رحيله لحظةَ تأمّل في مسارٍ سينمائي يتميّز بتحويله الصورة إلى تلاعبٍ جمالي باهر في صناعة فنٍّ، يبقى الأقدر على توثيق اللحظة، وإعادة التاريخ إلى راهنٍ مضطرب، ودفع الوقائع والحقائق إلى تبيان معالم أزمنة، ومسارات أناسٍ.


(تويتر)

لن تنفع إعادة مُشاهدة أفلامه في التعويض عن غيابه الأول، المتمثّل بابتعاده عن الشاشة الكبيرة منذ عام 2011، مع ظهوره السينمائي الأخير ممثِّلاً في فيلم موسيقي بعنوان "المحبوبون" للفرنسي كريستوف أونوريه (1970)، كما عن غيابه الثاني، المُعلن في خبر رحيله؛ وإن تبقى المُشاهدة، والمُشاهدات التالية للمُشاهدة الأولى، أساسية وضرورية في الوعي الفرديّ لمعنى الصورة واشتغالاتها؛ علمًأ أنها غير محتاجة إلى سببٍ كي تتحقّق. فلا رحيل صاحبها دافعٌ إلى إعادة المُشاهدة، ولا انتظار محبّي سينماه إنجازه أي جديد له، تحريضٌ على فعل كهذا. أفلامه، أو بالأحرى بعض أبرز عناوين أفلامه، كافيةٌ لأكثر من مشاهدة، من دون أسباب.
التشيكي ميلوش فورمان (18 فبراير/ شباط 1932 ـ 13 إبريل/ نيسان 2018) يرحل بهدوء، بعد صخب عناوين سينمائية يجعلها مرايا أفراد وجماعات، وتجعله أحد أجمل المتلصّصين على الداخل البشري لأفراد وجماعات. يحصل على الجنسية الأميركية في سبيعنيات القرن الـ20، ويؤسّس مكانًا له في المشهد السينمائي الدولي (له أفلام تشيكية عديدة، قبل هجرته إلى الولايات المتحدّة الأميركية، كما أن أفلامه متنوّعة الأشكال بين قصير وطويل)، مُحوِّلاً الكاميرا إلى آلة تشريح غير متوقِّفة عند حدّ. السِيَر الحياتية لشخصيات معروفة لن تبقى مجرّد تسلسل تأريخي أو اجتماعي أو إنتاجيّ أو معرفيّ، بقدر ما تُعيد صوغ الحياة وتفاصيلها ورهاناتها وتحدّياتها. أو بقدر ما تُعيد رسم ملامح صاحب هذه السيرة أو تلك، عبر عدسة الكاميرا/ عينه الخاصّة، التي تنفتح داخل الفرد على المخبّأ والمنسيّ.
"ربيع براغ" (1968)، السابق لـ"مايو/ أيار 68" في فرنسا، سببٌ لانتقاله إلى باريس، بحثًا في تفاصيل أول عقد سينمائي له لإخراج أول فيلم أميركي. تلك فترة يُحتَفَل ـ عام 2018 ـ بذكرى مرور نصف قرن عليها، ويُعاد البحث في آلياتها ومشاغلها ونتائجها المختلفة، هي المنتشرة في أصقاع مختلفة من العالم. ميلوش فورمان يُغادر بلده، ويحاول العودة إليه، وينجح أحيانًا، لكنه يصنع تاريخه السينمائي في أميركا.


(Getty)

مشاكساته السينمائية مثيرة للانتباه والمتع، وأحيانًا تتماهى بمشاكسات الشخصيات المختارة لأفلامه: أن يضع المنتج الأميركي لاري فلينت (1942) أمام كاميراه، فهذا لن يكون مجرّد نزقٍ يدفعه إلى إثارة جدل عابر حول شخصية مثيرة للجدل، بسبب فضائحها ونزقها ومواجهاتها الشرسة مع أنواع مختلفة من السلطات، بل إضافة جمالية لنزقٍ يفضح المؤسّسات التسلّطية والرجعية، في زمن تحوّلات اجتماعية أميركية ("الشعب ضد لاري فلينت"، 1996). وأن يختار الفكاهي والممثل الأميركي آندي كوفمان (1949 ـ 1984) كي يصنع أحد أجمل أفلامه السينمائية المنخرطة في السِيَر الحياتية، مُبتعدًا فيه عن تقليدية السرد، فهذا يتطلّب متخيّلاً عميقًا لكشف الارتباك الذاتي للشخصية، وفي تعرية انهياراتها وانعدام الحدود الفاصلة فيها بين النفاق والصدق ("رجل على القمر"، 1999). وأن يعود إلى القرن الـ18، مستلاً منه وولفغانغ أماديوس موتسارت، أو "موزار" كما في اللغة الفرنسية (1756 ـ 1791)، فيجعله نواة وحيدة لرواية زمنٍ وإنتاج وتمزّقات نفس وروح، في مواجهة تحوّلات وابتكارات والتباسات، فهذا يعني أن الموسيقيّ النمساوي واجهة لتحويل اللغة السينمائية إلى مداخل تتيح إعادة اكتشاف خراب الفرد عبر الفن.
هذه نماذج تؤكّد أن للسيرة الحياتية السينمائية مَنَاحيَ تليق بمعنى الصورة في مواكبة أحوالٍ وسرديات تبدو كأنها غير منتهية. شخصيات أخرى يخترع وجودها كي يخترق جوانب منغلقة على الذات وفيها، فتبدو كأنها حقيقية أكثر من كل شخصية حقيقية. هذا يزداد جاذبية وسحرًا في المُشاهدة، مع ممثلين يُتقنون ترجمة رغبات السينمائيّ، مضيفين على الترجمة ما يمتلكون من حساسية وانفعال واختبارات: جيم كاري (1962) في "رجل على القمر" مثلٌ يأتي بعد أعوام على "تُحفة" أداء جاك نيكلسون (1937) في "طيران فوق عش الواقواق" (1975)، الباقي في ذاكرة السينما والسينمائيين المحترفين والمُشاهدين السينيفيليين كأحد أجمل الروائع البصرية، وكأحد أفضل أدوار نيكلسون، وكأحد أبرع تفكيكٍ للتخبّطات السلوكية في حياة الفرد. مثلٌ يأتي بعد 3 أعوام فقط على جمالية تمثيل وودي هارلسون (1961) في لاري فلينت، البورنوغرافيّ اللاذع والشرس والمُقْعَد.



وإذ يتمتّع ميلوش فورمان، ويُمتّع مشاهدي أفلامه في الوقت نفسه، بعودة تلو أخرى إلى أزمنة قديمة، فهو يخرج من عباءة موتسارت كي يرتدي زيّ رسّام إسبانيّ مولود في منتصف القرن نفسه (18): فرنشيسكو غويا (1746 ـ 1828)، في "أشباح غويا". هنا، تلتمع مخيّلة فورمان في التنصّل من حقائق التاريخ ووقائعه، كي يتسلّى في اكتشافاته السينمائية، وكي يصنع من ألعابه البصرية صُورًا تؤكّد حرصه على التفنّن في كيفية السرد، وإن يبقى "أشباح غويا" أقلّ جذبًا من أفلامه الأخرى في السياق نفسه.


(Getty)

لن تُغيِّب أمثلةٌ كهذه أعمالاً سينمائية وممثلين يجدون، في تعاونهم مع ميلوش فورمان، مساحات شاسعة من صرامة أداءات تتسع لشتّى أنواع الاختبارات. أمثلةٌ تكفي لتحية السينمائي المنطوي على شيخوخةٍ تتغلّب عليه في أعوامٍ أخيرة، من دون أن تقوى على إلغاء تاريخٍ حافلٍ من المواجهات.
دلالات
المساهمون