ميكي ماوس وعالمه السينمائي: صناعة لغة كونية

16 نوفمبر 2018
ميكي ماوس ووالت ديزني (فيسبوك)
+ الخط -
هذا العام، يحتفل ميكي ماوس بعيد ميلاده الـ90، وهو لا يزال يُضحِك الصغار والكبار معّا. بطل عابر للزمن. هو البطل السينمائي الوحيد الذي تفوّق على تشارلي شابلن في الشهرة والإضحاك، وصار رمزًا للثقافة الرأسمالية. 

يصعب تحليل الأفلام كلّها لميكي ماوس. لذا، يُمكن الاستعانة بعيّنات محدّدة لاستنباط خصائص جامعة للشخصية. العيّنة الأولى: Abeille Et Toile De Maitre (2017): رسّام يُنجز لوحات متشابهة، فيُقرِّر البحث عن الإلهام بمحاكاة الموديل الواقعي الذي يؤدّيه ميكي. يجد الموديل (الواقع) ميكي صعوبةً في الثبات حتى انتهاء الرسّام من عمله. الواقع كماء النهر لا يثبت. الموديل لا يثبت لأن الواقع يقرصه. فورًا، ينطلق ميكي في مطاردة نحلة قرصته.
هذا فيلم قصير عن صعوبة ممارسة الفن، يكشف دور تراث الرسم الغربي في بناء شخصيات الرسوم المتحركة. تلتقي فيه شخصيات بشرية وحيوانية، تتخلّص من قانون الزمان والمكان. ميكي يطير ويفهم النحلة ويتحاور معها ويتصرّف بشهامة حتى في أخطر اللحظات. إنه بطل صبور وإيجابي. يُنقذ النحلة التي قرصته. وأثناء إنقاذها، يتعرّض لهجوم جموع النحل.

تظهر هذه الصفات الإيجابية للشخصية في عيّنة ثانية أقدم: Plane Crazy (1928) لوالت ديزني وأوب إيوركس. طائرة مجنونة تعلن الخطوط العريضة للأفلام القصيرة المقبلة للبطل الذي يصنع طائرة، ويقارن نفسه بربّانٍ، ويجد أن الفرق الوحيد كامنٌ في طريقة التحليق. بعد الإقلاع، تتحطّم الطائرة. لكن الفشل لا يقود ميكي إلى التنازل، بل يدفعه إلى البدء مجدّدًا، فيركب سيارة تطير، وتلحق به بقرة، وتقع حبيبته فتصير تنورتها مظلة للهبوط. تحاول حبيبته الإمساك بضرع البقرة، فتتبلّل بالحليب.

هذه ثورة في التخييل. حيوانات تمارس الميكانيك، وبطل متناغم مع الطبيعة، ويحلب بقرة من نافذة سيارته. يلتقي الواقعيّ باللامعقول والمستحيل لإدهاش المتفرّجين.

الخصائص نفسها موجودة في Mad Doctor (1933) لديفيد هاند: ميكي مواطن آمن. يشخر أثناء نومه. لكنه يسمع طلبًا للنجدة، فينهض لإنقاذ صديق خطفته قوّة شريرة واقتادته إلى قلعة محصّنة ذات دهاليز بلا نهاية، وغرف بـ7 أبواب، وأشباح لهم قدرات تدميرية لا نهائية. يقتحم ميكي قلعة أخطر من مدينة طروادة، ويلتقي دكتورًا مجنونًا ذي لحية ومخالب، يحاول تقطيع جسد الصديق وهو حيٌّ بمنشارٍ كهربائي. بعد دخول تلك القلعة، تزول درجات السلم التي يعبرها الداخِلُ إليها. هذه نبوءة سوداوية. صديق كلب ينقذ البطل.

في الفيلم، لَعْبٌ دقيق بالضوء والظلّ. فيه تفكير سينمائي عميق ومؤسِّس على صعيد الأسلوب. فالتماثيل الخشبية التي يظهر ظلّها بشكل مخيف يتغيّر حجمها تبعًا لحركة اللهيب الذي تحرّكه الريح.

تسمح هذه العينات باختبار خصائص أفلام ميكي ماوس، التي أُنجزت في وقت بلغ فيه عدد صالات السينما في الولايات المتحدّة الأميركية 23000 صالة، وفّرت تسلية لسوقٍ هائلة. عام 1930، كانت تباع 452 مليون تذكرة سينمائية في العالم. استهدف المنتجون، الذين يفكّرون بشبّاك التذاكر فقط، جمهورًا أقلّ ثقافة وعلمًا وتقدّمًا ورغبةً في تطوير نفسه ("عصر التطرّفات"، إيريك هوبزباوم، ص. 456). باعتماد الشركة المُنتجة استراتيجية مخاطبة الشعب، يمكن فهم أفلام ميكي ماوس من دون معرفة القراءة والكتابة، ومن دون فهم اللغة الإنكليزية. أفلام كوميدية تخاطب العين أساسًا. لذا، بقيت اللغة ثانوية حتى في عصر السينما الناطقة. أفلام لا تحتاج إلى الترجمة، بفضل خيال ينتصر على الحواجز التعبيرية كلّها لإيصال المتعة والمعنى.

في أفلام ميكي ماوس لغة سينمائية محترفة، عمادها الصمت المشبع بالمعاني. فبينما هيمَنَ التجريد والتكعيبية على الرسم في الثلث الأول من القرن الـ20، اعتمدت "شركة والت ديزني" تصويرًا تمثيليًا دقيقًا، وصُوَرًا تُغني عن الكلمات.

تتقوّى دلالة الصورة السينمائية وإيحاءاتها بفضل سردٍ براغماتي يسهِّل عمل الكاميرا. سردٌ فيه حبكة متماسكة. كلّ حدث نتيجةً لسابقه، وسببًا للّاحق به. حدثٌ متولِّدٌ من حوافز كونية، كالجوع والخوف والحبّ. سردٌ براغماتي، يعرض سلوكات واقعية عملية. تلتقط الكاميرا السلوكات تلك، ولا تلتقط ما يجري في الجماجم، ولا النوايا. تلتقط السلوكات، ولغة الجسد المذهلة لدى ميكي ماوس، وهي لغة تُريح العين وتستغني عن الأذن. فمن يستطيع الزعم أنه لا يفهم أفلام ميكي ماوس؟

لا يقتصر الأمر على اللغة السينمائية ومنطق السرد، بل يشمل خصائص البطل أيضًا. ميكي ماوس بطل سينمائي صغير الحجم، يحتقره خصومه فيصدمهم. يحمل بصمات البطل في مختلف الثقافات. وضع جوزف غامبل كتابًا يدرس البطولة في أفلام هوليوود، ويهدف إلى التدليل على "أنّ الأساطير نفسها والتفسيرات والاستخدامات التي عرفناها من خلال الحكماء، تبدو في الجوهر متوازية فيما بينها" ("البطل بألف وجه"، ترجمة حسن صقر، "دار الكلمة للنشر والتوزيع"، دمشق، الطبعة الأولى، 2003، ص. 49). يذكر الكاتب صفات البطل، التي نجد الكثير منها في سلوك ميكي ماوس. هو بطل يغامر، ولديه مهمة في مكان خطر يقتحمه لأول مرّة. يتعرّض لخدعة، ولا يتنازل. يقاوم الطمع، ويخدم الخير والعدالة.

يمكن تقديم آلاف الأساطير والروايات والأفلام والمسلسلات التي تعيد إنتاج الصفات هذه للبطل. صفات توحّد مستهلكي حكاياتٍ تؤكّد تشابهاتها أنّ السرد كونيٌّ، وأنه يُفهم في الثقافات كلّها، لأنّه صادر عن نماذج بيئية توجد في المجتمعات كلّها.

في أفلام ميكي ماوس كلّها شخصيات إنسانية وحيوانية. هذا متأتٍ من أثر الحكايات الشفهية عن الزمن الأول. سردٌ من زمنٍ كانت فيه الحيوانات تتكلّم. سردٌ يستهدف شخصية الطفل الكامنة في لاوعي كلّ مُتفرّج، بغض النظر عن عمره. لذا، ليست صدفة أن يظهر الفيلم القصير Mickey In Arabia (1932) لويلفرد جاكسن (اختطاف مُصوّر لناقة في حالة سكر شديد) لتأكيد كونية منطق السرد.

التأثير السينمائي لميكي ماوس مرصود في تأثير أفلام مختلفة، كما في "طائرة مجنونة"، المذكور أعلاه: مهندس عاقل يمارس الروديو على طائرة تذكّر بحلم عباس بن فرناس، وفيلم Le Vent Se Leve (2013) للياباني هاياوو ميازاكي، أو كما في "الدكتور سترانجلاف: أو كيف تعلّمت أن أتوقّف عن القلق وأحبّ القنبلة" (1964) لستانلي كيوبريك.
في الفيلم القصير الذي أنجزه والت ديزني عام 1929 بعنوان "البيت المسكون"، يعزف ميكي ماوس للهياكل العظمية كي ترقص وتُفرغ طاقتها الجسدية. هذا اقتبسه مايكل جاكسون لاحقًا في "فيديو كليب"، يرقص فيه مع جثث خارجة من المقابر. فيلمٌ قصير يحمي فيه الفنُ البطلَ ميكي ماوس، ثم مايكل جاكسون، من الخوف، ومن أشباح الحياة. أحيانًا، يُمكن للفن أنّ يُقدّم الكثير كي تكون حياة البشر أفضل.

من اعتاد مُشاهدة ميكي ماوس والرسوم كلّها لوالت ديزني، سيجد صعوبة في مشاهدة رسوم أخرى. سيجدها رسومًا متحركة فيها قبح وفقر خيال. شاخ أبطال رسومٍ يابانية وبلجيكية وفرنسية، بينما أفلام ميكي ماوس آنيّة، لا تفقد راهنيّتها. الخيال الخصب لا يشيخ. الدليل: أرقام مشاهدة أفلام ميكي ماوس بعد عشرات الأعوام على تحقيقها وعروضها التجارية الأولى.
أفلام ميكي ماوس دروسٌ مجانية مفيدة لمن يريد تعلّم السينما كلغة كونية.
المساهمون