موسيقى الراي... ذاكرةٌ حيّة لا يصيبها النسيان

27 فبراير 2020
الشاب خالد من أبرز أعلام الراي عربياً (Getty)
+ الخط -
لكل جيل قديم أو جديد ذاكرة فنية وجمالية، يحتمي بها من رتابة الحياة اليومية، يرنو إليها كالطفل سعيداً أو حزيناً، لينسج معها ضرباً من النوستالجيا الخفية الساحرة عن طريق الموسيقى، بما هي تجميل خلّاق للطبيعة البشرية وتهذيب للنفس أمام الرجات التي يتعرض لها الجسد، تجاه الواقع العربي البائس.

وفي هذه الحالة تلعب الذاكرة دوراً كبيراً بوصفها موطناً وخزاناً فنياً وجمالياً لا ينضب، لكن عملية الاستعادة لا تكاد تخلو من براءة، إذ تتدخل فيها هواجس أكثر من جمالية، بل سياسية وأيديولوجية، ما يجعل مفهوم الذوق الموسيقي متنوِّعاً حسب حساسيات الفرد الفنية وتكوينه وخلفيَّاته المعرفية التي تؤسس بدون وعي منه لجوهر هذا الاختيار.

وبما أن الموسيقى العربية تنقسم بشكل مضمر بين الرسمية والوطنية التي تحبها الأنظمة والمؤسسات السياسية، لأنها موسيقى جامدة ولا تحرك أية حساسية تجاه هذه السلطة، وتعمل بشكل خفي على تأجيج وهجها داخل المجتمع، لتصبح علامة وجود على جيل، وموسيقى أخرى "شعبية" منتفضة ومحتجَّة، تنمو في مناطق الاحتجاج المغبونة، مثل موسيقى الراي، خاصة في المنطقة الواقعة بين الغرب الجزائري والشرق المغربي. وإن كان هناك صراع قائم عن الموطن الأصلي لفن الراي بين الجزائر والمغرب، والذي يصعب معرفته، وإن كانت الخصوصيات الجزائرية واضحة على موسيقى الراي، لكن مع ذلك تبقى عملية الإثبات صعبة علمياً.

تعدّ سنوات التسعينيات المرحلة الذهبية لفن الراي داخل الجغرافيا المغاربية، إذْ تميزت بانتشار ساحق لأعلامه داخل المغرب والجزائر، وانتشر صداه إلى بلدان عربية أخرى. أسماء من قبيل حسني ونصرو وخالد ومامي، لا يمكن للمرء نسيانها إلى اليوم، لما قدمته للساحة الغنائية المغاربية في فترة شهدت نوعاً من السكون والصمت نتيجة المعركة حامية الوطيس خلال السبعينيات المشتدة بين التقليد بدعم من السلطة والقوى التقدمية الحداثية المناهضة لكل سلفية تقليدية. وبالتالي شكلت هذه المرحلة ما يشبه مراجعة واستراحة للمغرب.



مع انخفاض سلطة الرقابة التي كانت تمارسها الدولة على الفنانون، انفجرت موسيقى الراي خلال التسعينيات بحرية مطلقة وبموضوعات كانت في الغالب حول الحب والمرأة والشتات والحرمان والهجرة وغيرها من الموضوعات التي لها علاقة بالفرد المغاربي وجرحه وألمه. كما أن هجرة بعض المغنين لهذا اللون الغنائي صوب الخارج ساهمت في تدويل فن الراي وجعل موسيقاه عالمية، بدل التقوقع داخل الهوية المغاربية، منذ مهرجان الراي الشهير سنة 1987 بباريس، وأيضًا بسبب الآلات الحديثة ذات النفس الريفي والإيقاع السريع لها والقريب من الموسيقى الغربية وتموجها، هذا إضافة إلى الخصوصيات الجمالية للنص الغنائي وسهولة فهمه وارتباطه بفئة مخصوصة من المجمع المغاربي، وهي الشريحة المسحوقة الثائرة على العادات والتقاليد الموروثة عن الاستقلال.

شكلت موسيقى الراي ذاكرة حية لجيل بأكمله في المغرب، وما تزال تُسْمَع إلى اليوم بدرجات متفاوتة، لكن تأثيرها لم يضعف عن تنشئة جيل بأكمله سياسياً وثقافياً. والسهرات التاريخية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء والرباط ومراكش لموسيقى الراي لا تزال صورها شاهدة على ذاكرة لن يطويها النسيان.


وبالتالي فإن أصدق الأغاني عبر تاريخ الموسيقى العربية، هي التي ظلت مرتبطة بسياقها التاريخي والاجتماعي الذي أفرزها، مثل الراي في وهران بالجزائر ووجدة بشرق المغرب. لكن مع بداية سنة 2000 ستأخذ موسيقى الراي مساراً آخر نحو الحضيض، ببروز أسماء جديدة لم تستطع أن تطور الراي على مستوى الكلمات والأنغام، بل فقط على مستوى الآلات وإيقاعاتها المختلفة، ما جعلها تأخذ طابع الترفيه والاستهلاك، ثم إن منطلقاتها ظلت بدون هوية مجتمعية وكأنها تعبير عن واقع آخر، لا علاقة له بالمجتمع المغربي.



المساهمون