موسم حصاد القمح

02 ديسمبر 2019
+ الخط -
ونحن أطفال صغار كان عيدنا الحقيقي في صعيد مصر هو موسم حصاد القمح، كانت الزغاريد تنطلق من كل ركن من بيوت القرية، وكانت الأفراح تعم الشوارع والأزقة والحارات..

كنا كأطفال لا ننام الليل في مثل تلك الأيام، فما إن تهل علينا نهايات شهر إبريل أو بدايات شهر مايو حتى تبدأ تباشير موسم حصاد محصول القمح، كنا في ذلك الوقت لا نمل من طرح هذا السؤال على أبائنا وكبار السن: متى يوم الحصاد؟ هل ستصحبوننا معكم وأنتم ذاهبون إلى الحصاد بعد منتصف الليل؟ وحتى نشجعهم نؤكد لهم أننا كأطفال لا نخشى الذئاب التي تسكن الأراضي الزراعية الواقعة خارج القرية.

في ذلك الوقت كانت عيدان القمح قد استوت استعدادا لحصادها وقطفها، وكانت السنابل معلقة في شموخ وجمال وكبرياء وكأنها قرط يجمّل أذن فتاة في ريعان شبابها، كان لون السنابل الذهبية يسر الناظرين، يكسو كل الحقول من حولنا والتي تبدو وكأنها عبارة عن قطعة من قماش أبيض ناصع البياض لا تلوثه حتى ولو بقعة صغيرة، أحيانا كانت تشبه السنابل قطعة من الذهب، خاصة مع غروب الشمس.


في يوم الحصاد كان الأب يصطحب أخوته وأبناءه، وربما كل أسرته لمساعدته في جمع المحصول، كان وقت الانطلاق هو بعد غروب الشمس مباشرة أو بعد منتصف الليل إذا كانت الليلة قمرية، أو قبل صلاة الفجر مباشرة وحتى الصباح، كان لاختيار وقت الحصاد مغزى، فالحصاد يكون أما في الصباح الباكر أو مع الغروب حتى لا يحدث هدر للحبوب أو تكسير للسنابل، كان الجميع حريصاً على تقليل الفاقد من المحصول "حتى لا تقل البركة"، والعناية بعمليات النقل والدرس حتى يعم الخير، وعندما كانت تمتد أيدي الفلاحين لحصد القمح في هذه الأوقات لا تسقط حبات القمح من السنبلة.

قبل انطلاق الموسم كان الجميع يحرص على تدبير أدوات الحصاد، فالمنجل أو الشرشرة يتم سنّ أسنانهما، بحيث تصبح حادة وتساعد في حصد أكبر كم من العيدان بأقل جهد، كان يتم تجهيز الحبال الليف التي يتم لف عيدان القمح بها، ولا يزال يتم استخدام هذه الحبال في الريف حتى الآن، وهناك النورج اليدوي الذي كان يستخدم في فصل الغلال عن العيدان في عملية الدرس قبل أن تتم إحالته إلى المعاش واستبداله بأدوات الحصاد الحديثة مثل الدرّاسة، كان النورج يدخل السرور على قلوب الأطفال، حين كانوا يقفزون على خشبتيه اللتين كانتا تجرهما بقرة أو بقرتان وتسيران على أعواد القمح لفصل الحبة عن العود.

مع انطلاق صفارة الحصاد كان الجميع يسارع الخطى إلى الحقول، تمتد يد الفلاح بالمنجل أو الشرشرة ليحصد أعواداً وراء أخرى من سنابل القمح، كان يفعل ذلك ويغني بصوت عال يسمعه حتى الفلاحون الذي يحصدون محصولا آخر في أرض مجاورة.

كان الأطفال الصغار يحفظون عن ظهر قلب كل مراحل عملية الحصاد، التي تبدأ بحصاد أعواد القمح كاملة باستخدام المناجل، ثم تترك الأعواد على الأرض لعدة أيام، بعدها يتم تربيط القش أكواما باستخدام حبال الليف المصنوعة من النخيل، وبعدها بيوم يتم نقل حزم القمح من الحقل إلى كوم كبير يطلق عليه "الجرن" الذي يخزن فيه المحصول في وسط الحقل أو في أحد أركانه، كان يطلق على هذه العملية اسم "التجرين"، وبعدها يتم البدء في الدراس بواسطة "الدرّاسة" التي تفصل الغلال عن العود وتحوله إلى تبن، وأخيرا يتم نقل المحصول والتبن، الذي يستخدم علفا للماشية، إلى المنزل.

وبينما كان الجميع غارقاً في متابعة إجراءات الحصاد، كانت الفئران الحمراء التي تشبه الأرانب تخرج من جحورها وكأنها ترقص فرحاً، كنا نحن الأطفال نهلل ونضحك عندما نراها، ظانين أنها أرانب بيضاء أو أنها عفاريت تسكن الأرض وتختبئ وسط عيدان القمح، لكن الفلاحين كانوا يبتسمون حينما يقولون لنا إنها فئران بيضاء تتغذى فقط على القمح، كان بعض الفلاحين يسارعون إلى ذبحها ثم سلخها ثم تناولها كطعام، كنا نحن الأطفال الصغار نشمئز من ذلك المشهد المقزز الذي يتحول فيه الفأر الأحمر إلى وجبة غداء.

وقت الحصاد وأثناء التجرين، كان الفلاحون يرددون أغاني فلكورية، مثل أغاني الجمالة، كان من بين الأغاني التي تسر سمعك "عمره ما يخلف مواعيده يا رب تبارك وتزيده.. لولى من نظم سيده متحكم بين عبيده"، وإلى جانب أغاني الحصاد كان هناك الفلكلور الشعبي الذي ينتشر بين الفلاحين أثناء حصاد القمح، للترفيه والتسلية.

وعلى أنغام الأغنية الشهيرة لموسم حصاد القمح في قرى صعيد ومحافظات مصر "القمح.. الليلة ليلة عيده، يا رب تبارك وتزيده"، التي قدمها الفنان الراحل محمد عبد الوهاب في عام 1948، يعكف الفلاحون على الحصاد ودراس القمح في أيام تعُرف باسم "جمعة الخير"، لما فيها من خير كثير يعود على الجميع.

لا يهمنا في هذا الوقت، نحن كأطفال، أن نعرف معنى الأغنيات التي يرددها الفلاحون، المهم أن البسمة كانت مرسومة على وجه الجميع، فالقمح رمز الخير والغذاء. لحظات وتقترب لحظة توزيع المحصول، يقدم الفلاحون "التلاليس" أو الأجولة التي يتم بها تعبئة القمح، ومنها تذهب إلى المنازل على ظهر الحمير أو الجمال.

كانت السيدات يستقبلن المحصول بالزغاريد، فالخير قادم مع القمح، وكانت الأفراح تنصب بعد موسم الحصاد، فالفلاحون وعقب بيع جزء من المحصول يسارعون إلى تجهيز أولادهم للزواج، وسداد الديون، خاصة المستحقة لتجار التجزئة وأصحاب الدكاكين الصغيرة الذين تسحب منهم طوال العام على النوتة انتظارا لهذه اللحظة. كانت أعيننا نحن الأطفال تبرق عندما يتقدم التجار لشراء القمح وتسليم ثمن ما يشترونه من أرادب، كانت قلوبنا ترفرف عندما يخرج التاجر حزمة النقود الحمراء من جيبه ويبدأ بالعد قائلا: "بسم الله الرحمن الرحيم، توكلنا على الله، يا رب عينّا" أي ساعدنا، وبعدها يمد التاجر يده بأول جنيه للفلاح قائلا: الله واحد، ثم بثاني جنيه قائلا "مالوش تاني"، ثم يبدأ العد بعد الجنيه الثالث قائلا ثلاثة، أربعة، خمسة إلى أن يسلم باقي قيمة القمح الذي يشتري جزءا منه من الفلاح، على أن يتم تخزين الجزء الثاني لطحنه إلى دقيق وتحويله إلى خبز بكل أشكاله.

وما هي إلا لحظات حتى يتدفق أصحاب الديون المؤجلة على مكان "الجرن"، فهؤلاء يحصلون على أموالهم في المواسم، فهذا هو الحلاق جاء ليحصل على حصته من محصول القمح، فهو يحلق لأبناء الفلاحين طوال العام انتظارا لهذه اللحظة، وهذا "التربي"، وتلك سيدة فقيرة تربي أطفالا يتامى صغارا، وذاك جار لا بد أن يأكل من خيرات المحصول، وقبل كل ذلك يتم احتساب زكاة القمح وتوزيعها.

بعدها يأتي الدور علينا كأطفال، فنصيبنا من بيع محصول القمح محفوظ، نأخذه عداً ونقداً، وفي اليوم التالي نذهب إلى المدينة التي تبعد عنا عدة كيلومترات، لنشتري ذلك الجلباب المخطط بخطوط زرقاء عريضة وبها خط أبيض يشبه سنبلة القمح، ومعها نشتري حذاء "باتا" أو "صيدناوي" الشهير، وربما نذهب إلى السينما التي نتردد عليها مرتين في كل عام، الأولى في عيد الفطر، والثانية في عيد الأضحى، والثالثة قد تكون في موسم حصاد القمح.
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".