17 ديسمبر 2022
أنا والسباحة والموت
كما يقولون، الموت أقرب إلينا مما نتخيّل، فقد تستنشق الهواء ولا تخرجه وخلال ثوانٍ معدودة تحمل لقب "المرحوم" أو الفقيد بعد أن كنت ترسم حياتك فيما بعد السبعين، وقد تنام ولا تستيقظ، وقد تبني أحلاماً لما بعد التقاعد ثم يخطفك الموت فجأة في ثانية، وقد تتعرّض لمرض عضال وتستسلم للموت وتتخيل أنه أقرب إليك من أي وقت مضى، فإذا بالله سبحانه وتعالى يشفيك ويطيل في عمرك أكثر مما كنت تتمنى.
وقد يحترق أحد أجنحة الطائرة التي تستقلها، كما حدث لي قبل سنوات، فتتخيل أنك ستحترق بعد لحظات، أو أنك ستطير في الهواء الطلق ثم يتفتت جسدك خلال ثوانٍ بعد أن يرتطم بشدة بالأرض، أو تأكلك الحيتان لو كان سقوطاً في البحر، فإذا بالقدر ينجيك من موت محقق.
كل ذلك معروف، فالموت قد يأتيك من حادث سير، أو بسبب السقوط من أعلى مبنى، أو من مرض تافه، أو بسبب كبر السن والتقدّم في العمر، وقد يأتيك وأنت بكامل عافيتك، وقد يأتيك وسط المياه وأنت تسبح مقاوماً الأمواج، ظناً منك أنك أبرع من "فيلبس" أفضل سباح في العالم، وقد لا يأتيك الموت رغم غرقك المتكرر.
المشهد الأول
كنت لا أتجاوز الخامسة من عمري، كل يوم أرى الأطفال يتسابقون على السباحة في الترعة التي تحيط بقريتي من جهتي الشمال والشرق، أشعر بالغيرة الشديدة، فأنا عدو ما لا أعرفه، لدي رغبة شديدة في تعلم السباحة، لأن جميع من حولي يتقن هذه الرياضة، لا أحد يريد تعليمي لأنني صغير السن، "لسا بدري عليك"، هكذا كان يردد الكبار دوماً على مسامعي.
في أحد الأيام قررت أن أسبح لوحدي في بركة مياه متفرعة من الترعة الأصلية ولا يتجاوز عرضها 10 أمتار وطولها 15 متراً، كانت البركة تغذي الزراعات المحيطة بها بالمياه، وكانت عميقة من المنتصف حيث الماء الأزرق لكنها ليست كذلك على الجوانب الأربعة، وكان يوجد فيها أنواع مختلفة من الأسماك التي كنا نتقن نحن الأطفال اصطيادها مثل البلطي والقرموط.
أقنعت نفسي بالسباحة على شاطئ البركة، لن أغامر وأنزل إلى المنتصف في حال عدم وجود شخص كبير بجانبي، هكذا قلت لنفسي، نزلت البركة وكلي حماس شديد لتعلم السباحة، لم أشعر بعدها إلا ويد شخص كبير تنتشلني من الغرق، لقد غرقت في أول ثوانٍ حينما انزلقت قدماي الصغيرتان إلى وسط البركة.
المشهد الثاني
رغم هذا الحادث الأخير الذي لم يفارق ذاكرتي طوال الخمسين عاماً الماضية، وكان حديث العائلة في ذلك الوقت، ازداد إصراري على تعلم السباحة، كيف ذلك، والكبار يرفضون تعليمي بحجة أنني ما زلت صغير السن.
في أحد أيام شهر يوليو/ تموز شديد الحرارة وبينما الجميع قد ذهب إلى البيت لتناول وجبة الغداء، أو يستريح لبعض الوقت أسفل الأشجار المنتشرة في المكان لتفادي موجة الحر، هبطت إلى الترعة بمفردي، كانت خطتي تقوم على السباحة مع التيار وليس ضده والعوم بجوار الشاطئ، وبالتالي أتفادى مخاطر وسط الترعة، أو أن يجرفني التيار إلى الداخل، في أول مرة نجحت الفكرة، كررت الأمر مرة ثالثة ورابعة وخامسة إلى أن طمعت وابتعدت عن الشاطئ حوالي متر، وحدث ما لم أتوقعه، لقد جرفني التيار إلى الداخل.
وفي ثوانٍ قليلة سحبني الموج إلى منتصف الترعة، شعرت بأنني أغرق، ومع هذا الإحساس تتعلق بقشة، تماسكت، في تلك اللحظة فعلت ما يفعله الكبار حينما يهدأون ويفكرون في المرحلة المقبلة، وبهدوء بدأت أحرك قدمي حتى أطفو فوق سطح الماء، وبهدوء حركت ذراعي للأمام، أخيراً الحمد لله عدت إلى الشاطئ، ثوانٍ مرت عليّ وكأنها سنوات، لم أتب وأتوقف، بل عدت في اليوم الثاني، لكن هذه المرة كان حذري أكبر وتعلمي أسرع.
المشهد الثالث
في يوم من أيام الصيف ذهبنا مجموعة من الصبية إلى ترعة الإبراهيمية الواقعة بالقرب من مدينة شبرا الخيمة شمال القاهرة، كنا في المرحلة الإعدادية، طلب مني أحد الأطفال أن أصحبه لأنه يريد أن يتعلم السباحة، في البداية رفضت لأن أهله يخافون عليه بشدة، ومع إصراره وافقت.
وصلنا إلى الجسر، هبطنا إلى شاطئ الترعة العميقة، على الشاطئ علمته مبادئ السباحة ودربته عليها بشكل عملي لمدة نصف ساعة، وبعدها طلبت منه أن يخرج من المياه ويجلس على الشاطئ لأنني أريد أن أسبح في وسط المياه.
أومأ برأسه موافقاً، استدرت بظهري سابحاً قاطعاً الترعة بالعرض لأصل إلى الشاطئ الآخر، وما هي إلا لحظات حتى سمعت صراخاً لسائق شاحنة: "إلحق، الولد يغرق"، التفت خلفي فوجدت ذلك الصبي الذي كنت أعلمه السباحة منذ ثوانٍ، سارعت لإنقاذه فإذا به يمسك بي وبعنقي ونغرق معاً..!
كان جسمه سميناً، وما إن أمدّ يدي إليه لأنتشله من الغرق حتى يأخذني هو إلى الأسفل، ثم هداني الله إلى حيلة لإنقاذه وهي دفعه دفعاً نحو الشاطئ مع عدم الاقتراب منه، دفعته بالقوة نحو الشاطئ إلى أن نجانا الله معاً من الغرق، وبسرعة الصاروخ وصل الخبر إلى أمه التي جاءت على عجل متهمة إياي بأنني كنت السبب في غرق ابنها. كان يوماً مشهوداً.
المشهد الرابع
قاطعت هواية السباحة سنوات طويلة بسبب مشاغل العمل وعدم وجود وقت فراغ، وبعد هذه السنوات ذهبت إلى حمام السباحة لأستعيد ذاكرتي مع هذه الرياضة المفضلة منذ نعومة أظافري، فجأة قفزت إلى وسط حمام السباحة محاولاً تقليد أبرع السباحين العالميين، فإذا بشد عضلي قاتل أصاب ساقي اليمنى جعلني لا أستطيع تحريكها وأنا تحت المياه، فجأة وجدت نفسي لا أستطيع تحريك كل جسدي وأنا في قاع حمام السباحة.
بعد ثوانٍ كانت قدماي أعلى المياه وجسمي كله أسفله، بدأت أشرب مياهاً، أريد أن أصرخ، فلم أستطع، فأنا تحت الماء، أريد أن أستنجد بأحد لينقذني فلم أستطع لأن رأسي كان بالأسفل فأنا مقلوب، ثوانٍ مرت كسنوات طويلة، لاحظ من حولي ما أمرّ به فتسابقوا لإنقاذي، وبصعوبة شديدة عدلت جسدي ووصلت إلى حافة حمام السباحة.. ساعتها تعلمت درساً وهو: إياك أن تنقطع عن السباحة لفترة طويلة، وإذا انقطعت فعودتك يجب أن تكون بهدوء.
في أحد الأيام قررت أن أسبح لوحدي في بركة مياه متفرعة من الترعة الأصلية ولا يتجاوز عرضها 10 أمتار وطولها 15 متراً، كانت البركة تغذي الزراعات المحيطة بها بالمياه، وكانت عميقة من المنتصف حيث الماء الأزرق لكنها ليست كذلك على الجوانب الأربعة، وكان يوجد فيها أنواع مختلفة من الأسماك التي كنا نتقن نحن الأطفال اصطيادها مثل البلطي والقرموط.
أقنعت نفسي بالسباحة على شاطئ البركة، لن أغامر وأنزل إلى المنتصف في حال عدم وجود شخص كبير بجانبي، هكذا قلت لنفسي، نزلت البركة وكلي حماس شديد لتعلم السباحة، لم أشعر بعدها إلا ويد شخص كبير تنتشلني من الغرق، لقد غرقت في أول ثوانٍ حينما انزلقت قدماي الصغيرتان إلى وسط البركة.
المشهد الثاني
رغم هذا الحادث الأخير الذي لم يفارق ذاكرتي طوال الخمسين عاماً الماضية، وكان حديث العائلة في ذلك الوقت، ازداد إصراري على تعلم السباحة، كيف ذلك، والكبار يرفضون تعليمي بحجة أنني ما زلت صغير السن.
في أحد أيام شهر يوليو/ تموز شديد الحرارة وبينما الجميع قد ذهب إلى البيت لتناول وجبة الغداء، أو يستريح لبعض الوقت أسفل الأشجار المنتشرة في المكان لتفادي موجة الحر، هبطت إلى الترعة بمفردي، كانت خطتي تقوم على السباحة مع التيار وليس ضده والعوم بجوار الشاطئ، وبالتالي أتفادى مخاطر وسط الترعة، أو أن يجرفني التيار إلى الداخل، في أول مرة نجحت الفكرة، كررت الأمر مرة ثالثة ورابعة وخامسة إلى أن طمعت وابتعدت عن الشاطئ حوالي متر، وحدث ما لم أتوقعه، لقد جرفني التيار إلى الداخل.
وفي ثوانٍ قليلة سحبني الموج إلى منتصف الترعة، شعرت بأنني أغرق، ومع هذا الإحساس تتعلق بقشة، تماسكت، في تلك اللحظة فعلت ما يفعله الكبار حينما يهدأون ويفكرون في المرحلة المقبلة، وبهدوء بدأت أحرك قدمي حتى أطفو فوق سطح الماء، وبهدوء حركت ذراعي للأمام، أخيراً الحمد لله عدت إلى الشاطئ، ثوانٍ مرت عليّ وكأنها سنوات، لم أتب وأتوقف، بل عدت في اليوم الثاني، لكن هذه المرة كان حذري أكبر وتعلمي أسرع.
المشهد الثالث
في يوم من أيام الصيف ذهبنا مجموعة من الصبية إلى ترعة الإبراهيمية الواقعة بالقرب من مدينة شبرا الخيمة شمال القاهرة، كنا في المرحلة الإعدادية، طلب مني أحد الأطفال أن أصحبه لأنه يريد أن يتعلم السباحة، في البداية رفضت لأن أهله يخافون عليه بشدة، ومع إصراره وافقت.
وصلنا إلى الجسر، هبطنا إلى شاطئ الترعة العميقة، على الشاطئ علمته مبادئ السباحة ودربته عليها بشكل عملي لمدة نصف ساعة، وبعدها طلبت منه أن يخرج من المياه ويجلس على الشاطئ لأنني أريد أن أسبح في وسط المياه.
أومأ برأسه موافقاً، استدرت بظهري سابحاً قاطعاً الترعة بالعرض لأصل إلى الشاطئ الآخر، وما هي إلا لحظات حتى سمعت صراخاً لسائق شاحنة: "إلحق، الولد يغرق"، التفت خلفي فوجدت ذلك الصبي الذي كنت أعلمه السباحة منذ ثوانٍ، سارعت لإنقاذه فإذا به يمسك بي وبعنقي ونغرق معاً..!
كان جسمه سميناً، وما إن أمدّ يدي إليه لأنتشله من الغرق حتى يأخذني هو إلى الأسفل، ثم هداني الله إلى حيلة لإنقاذه وهي دفعه دفعاً نحو الشاطئ مع عدم الاقتراب منه، دفعته بالقوة نحو الشاطئ إلى أن نجانا الله معاً من الغرق، وبسرعة الصاروخ وصل الخبر إلى أمه التي جاءت على عجل متهمة إياي بأنني كنت السبب في غرق ابنها. كان يوماً مشهوداً.
المشهد الرابع
قاطعت هواية السباحة سنوات طويلة بسبب مشاغل العمل وعدم وجود وقت فراغ، وبعد هذه السنوات ذهبت إلى حمام السباحة لأستعيد ذاكرتي مع هذه الرياضة المفضلة منذ نعومة أظافري، فجأة قفزت إلى وسط حمام السباحة محاولاً تقليد أبرع السباحين العالميين، فإذا بشد عضلي قاتل أصاب ساقي اليمنى جعلني لا أستطيع تحريكها وأنا تحت المياه، فجأة وجدت نفسي لا أستطيع تحريك كل جسدي وأنا في قاع حمام السباحة.
بعد ثوانٍ كانت قدماي أعلى المياه وجسمي كله أسفله، بدأت أشرب مياهاً، أريد أن أصرخ، فلم أستطع، فأنا تحت الماء، أريد أن أستنجد بأحد لينقذني فلم أستطع لأن رأسي كان بالأسفل فأنا مقلوب، ثوانٍ مرت كسنوات طويلة، لاحظ من حولي ما أمرّ به فتسابقوا لإنقاذي، وبصعوبة شديدة عدلت جسدي ووصلت إلى حافة حمام السباحة.. ساعتها تعلمت درساً وهو: إياك أن تنقطع عن السباحة لفترة طويلة، وإذا انقطعت فعودتك يجب أن تكون بهدوء.