مواطنون في حالة رفض

30 سبتمبر 2015

الطالبة المصرية مريم ملاك لن تسكت وستواصل التحدي

+ الخط -
اسمها مريم ملاك. فتاة بسيطة من صعيد مصر، حصلت على صفر في امتحان الثانوية العامة، وهي المتفوقة في دراستها المدرسية. لم تسكت على النتيجة المريبة أو تخجل. قالت، بلهجتها الصعيدية، إنها مظلومة وضحية لتقليد في التزوير، يجعل الراسب متفوقاً والمتفوق راسباً. دافعت عن حقها في معرفة الحقيقة. أرسلت الرسائل إلى الرئيس، عبد الفتاح السيسي، وغيره من كبار المسؤولين. تحدّت تقارير لجان وفحص خط اليد وغيرها من الحلول التي قدمها المسؤولون من أجل "تقصي" القضية الكبيرة الغامضة، فالحكومة تلاحق شكاوى المواطنين، وقضية مريم ليست سوى حالة استثنائية جداً في دولة المؤسسات والقانون، حيث الإجراءات واضحة وعادلة.
ليست مريم مناضلة سياسية، ولا تريد تغيير النظام أو تحدّيه. لا تحمل أية أجندة سياسية، ولم تحتف بها المحافل، بوصفها ناشطة معارضة للنظام السابق، أو أي نظام. قامت الفتاة بما كان سيقوم به أي طالب في دولة قانون، يواجه الحالة نفسها، أن يحتج على الوضع، ويحاول تصحيحه بالوسائل الكثيرة المتاحة لإعادة الحق إلى صاحبه. الغريب أن مريم لا تعي أنها ليست في نظامٍ من هذا النوع. ماذا يعني أن تقوم فتاة بسيطة، مسيحية من أصول اجتماعية متواضعة، بالحديث عن فساد في النظام التربوي، في أجواء الهلوسة الوطنية التي تجعل أي انتقاد للنظام مؤامرة دولية على الأمن القومي؟ ماذا يعني أن تطالب فتاةٌ لا تنتمي إلى حلقة أصحاب الامتيازات من المواطنين فوق العادة بأن ينصفها النظام وإعلامه، ولو كان الثمن حملات تشويه، جعلت منها راسبة كاذبة ومريضة نفسياً؟
تشكل مريم وأمثالها نموذجاً لثورةٍ لا نزال ننتظر قدومها، عندما يصبح المواطن العادي القانع، عادةً، بمصيره، مبادراً للمطالبة بالحق وبالقانون والكرامة الإنسانية، بصرف النظر عن تصنيفه في السلم الاجتماعي والمعسكرات السياسية. قالت مريم لا، بالفم الملآن، للفساد، ومن على المنابر الإعلامية التي تلهت، إلى حين، بنقاش حالتها بعيداً عن صخب حملات التهييج الدعائية،
قبل أن تنعتها بالكاذبة والمريضة النفسية وغيرها من النعوت. قالت مريم إنها لن تسكت، وسوف تواصل المطالبة بحقها، بعدما توصلت التقارير "الموضوعية" إلى أنها راسبة فعلاً. سوف تنتهي قصة مريم مع تراجع الاهتمام الإعلامي بها، وقد يكون على الطالبة المتفوقة أن تواجه رسوباً متكرراً عقاباً لها على تحدّي النظام، إلا أن شجاعة فتاة الصعيد حالة غير مسبوقة. تحولت الشابة الصعيدية، من حيث لا تدري، إلى رمز لقدرة البسطاء على تحدّي الفساد من دون أجندات سياسية، أو منصات نضالية، ورفض قبول الفساد على أنه قدر محتوم أولاً، قبل الحديث عن التغيير السياسي وشعاراته العريضة.
**
في بيروت، نزل ألوف المواطنين اللبنانيين، من شتى الأطياف والألوان، إلى الشارع، للمطالبة بتنظيف بيئتهم من نفايات البيئة ونفايات السياسة معاً. بدت الحركة التي انطلقت من ارتجال، ولا تزال تتأرجح في تحديد هويتها، قادرةً، من حيث لم تخطط، على حشد مجموعات من الناس، لا يربطها ببعضها إلا خروجها من معسكرات الاصطفاف السياسي والمذهبي والقهر من ضيق أفق الحياة، واستحالتها في ظل تراكم أشكال الفساد وعجز الدولة. حمل كل متظاهر شعاراً "على قدِّهِ"، من تعبيرات التهكم على السياسيين، والدعوة إلى نبذهم، إلى إعلان بيع سيارةٍ، حمله أحد المتظاهرين. تراجعت شعارات السياسة وبرامجها، لتحل محلها الفكاهة الساخرة من مطالبة مجموعةٍ ببحر في بعلبك، إلى فيديوهات ساخرة لمواقف فنانين مشاركين في الحراك. بموازاة الحراك الشعبي، تحركت آلة السياسة التقليدية، مستعيدة طقوسها في المراوحة وكسب الوقت، بعدما خرج قسم من جمهورها عن طاعة "أولياء الأمر". استفاق الخيال المؤامراتي للزعماء وجماهيرهم وإعلامهم، ليحيك مختلف أشكال الروايات عن تمويل الحركة وأهدافها "التدميرية" المضمرة، بما يعيد إنتاج بعضٍ من أجواء الهلوسة الوطنية في الإعلام المصري. على تخبطها، حملت تظاهرات الحراك الشعبي نكهة جديدة، إنها نكهة المواطنة التي لا تحتاج إلى معسكرات سياسية وإيديولوجية، للتعبير عن نفسها، بدءاً بحقوق المواطنة في بيئة نظيفة من الفساد.
**
حسناً فعل الإعلامي، يسري فودة، في وصفه مقدمة البرامج، ريهام سعيد، بأنها "إحدى بالوعات الصرف الإعلامي"، بعدما عمدت إلى تصوير حلقة في أحد مخيمات اللاجئين في لبنان، تسخر فيها من معاناتهم، وتروج للنظام العسكري، على أنه البديل والحامي من مأساة التشرد، التي أصابت السوريين. ولعل "الإعلامية" الدخيلة على المهنة لم تطلع على كم التغطية الإعلامية الواسعة للانتهاكات الحقوقية، وأشكال الفساد المقذعة، التي يرتكبها النظام الذي تدافع عنه، والتي لا تقل مأساوية عن مأساة التشرد السوري، وتمزق أوصال الثورة السورية. وبما يتجاوز شريط اليوتيوب المهين الذي تم تداوله، على نطاق واسع، في شبكات التواصل الاجتماعي، وفيه سجلت سعيد سقوطاً مهنياً وإنسانياً جديداً، لعل تعليق فودة يعزز أصوات أبناء المهنة، على قلتهم، الشاجبة للفساد الإعلامي الماضي في غيّه، والذي حوّل البرامج الحوارية إلى منصة لتلويث العقول والضمائر، وتعزيز عزلة الجاهلين لما يجري حولهم في العالم.
تطمئن حالات إعلان الرفض باسم المواطنية، على تنوع أشكالها، إلى أن ربيع التغيير فصل يتكرر كل عام، ولا يوقف قدومه شتاءٌ، على قسوته.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.