موائد الإفطار التونسية: مرآة الفوارق الاجتماعية العميقة

01 يوليو 2015
ارتفاع أسعار السلع في تونس (فتحي بلعيد/فرنس برس)
+ الخط -
"رمضان كريم"! هو كريم بالفعل بالنسبة لفئة من التونسيّين لا تزال تتقلّص يوماً بعد يوم، مع استمرار الأزمة الاقتصاديّة التي تعرفها البلاد منذ سنوات. أمّا بالنسبة للأغلبيّة الساحقة، فأصبح حلول هذا الشهر يثير القلق نظراً للضغوط الإضافية، وارتفاع معدّلات الإنفاق نتيجة للعادات الاستهلاكيّة التي توارثها المجتمع جيلاً بعد جيل. فموائد إفطار التونسيّين خلال رمضان أصبحت تعكس بشكل واضح اتساع الفوارق الاجتماعيّة بين المواطنين، ومرآة تكشف الواقع المعيشيّ للناس.

الاحتفاء برمضان
تزيد العادات الاستهلاكيّة المتوارثة في المجتمع التونسيّ خلال شهر رمضان، الأعباء الماليّة خلال هذا الشهر. إذ وفق دراسة أعدّها المعهد الوطني للإحصاء، ترتفع مصاريف الأكل بالنسبة للمواطن؛ والتي تستنزف أكثر من 38% من إجمالي راتبه الشهري خلال الأيام العادية، لتصل إلى 51% في رمضان.


الخبير محمد ياسين السوسي يعلّق على هذه الأرقام بالقول إنّ هذا التغيير في النمط الاستهلاكيّ للمواطن التونسي خلال شهر رمضان يلقي بظلاله على الأعباء المالية للأسر، حيث تشير الإحصائيات إلى أنّ ما يزيد على 80% من التونسيّين يضطرون للاستدانة في الأسبوع الأخير من هذا الشهر، لتغطية العجز وتزايد المصاريف.

يضيف السوسي لـ "العربي الجديد" أنّ الطبقة الوسطى التي تمثّل 70% من المجتمع التونسيّ تجد نفسها أمام كابوس مالي حقيقيّ خلال هذا الشهر، فمائدة الإفطار العاديّة والمتعارف عليها في الأوساط الشعبية تبلغ تكلفتها ما لا يقلّ عن 10 دولارات، وهي تكلفة مرتفعة جداً، إذا نظرنا إلى متوسّط الأجور الذّي لا يتجاوز 400 أو 500 دولار كحدّ أقصى لأغلب التونسيّين.

اقرأ أيضا: التونسيون يؤمنون حاجاتهم من سلع مهربة

في السياق ذاته، يوضح كاتب عام منظّمة الدفاع عن المستهلك في محافظة أريانة محمود الزرّاعي لـ "العربي الجديد" أن التونسيّين من ضعاف الحال وحتى من الطبقة الوسطى، صاروا يلجأون للمواد الغذائيّة المهربّة أو الأسواق الموازية لكبح المصاريف خلال رمضان، ما يمثّل خطراً كبيراً على صحّة المواطنين، نظراً لغياب أدنى الشروط الصحيّة للعرض والحفظ والتخزين، بالإضافة إلى عدم خضوع هذه السلع للرقابة.

ويشير الزراعي إلى أنّ موجة الغلاء التي تعرفها البلاد منذ أربع سنوات، فضلاً عن معدّلات الارتفاع السنوي للأسعار؛ والتي تجاوزت 10% بالنسبة للمواد الغذائيّة، تدفع الناس للمخاطرة في الاحتفاء برمضان وإعداد موائد إفطار، تبقى برغم الإمكانات البسيطة ومحاولة التحايل على موجة الغلاء عبئاً مالياً يثقل كاهل العائلات التونسيّة. ويختم بالقول إنّ معظم العائلات التونسيّة تحاول ألا تتجاوز سقف الخمسة دولارات يومياً كتكلفة لمائدة الإفطار، نظراً إلى محدوديّة مداخيلها من جهة، وضرورة الإيفاء بمصاريف السكن والتنقل وفواتير الغاز والكهرباء من جهة أخرى. هذا دون الحديث عن مصاريف عيد الفطر والصحّة واللباس والترفيه.


موائد إفطار الفقراء: سدّ رمق
تحاول زينة، مثل مئات الآلاف من ربّات البيوت، وبما تيسّر لديها من مصروف ضئيل، إعداد مائدة إفطار تسدّ رمق عائلتها بعد ساعات طوال من الصيام. حجم معاناتها اليوميّة في توفير وجبة الإفطار يحتل الحيز الأكبر من حديثها عن رمضان، حيث تشير إلى تضاعف أسعار المواد الغذائيّة بشكل جنوني خلال السنوات القليلة الماضية في مقابل جمود الأجور. تضيف أنّها تضطرّ إلى تجنّب العديد من السلع والمنتجات الغذائيّة، على غرار اللحوم الحمراء والحلويات وغيرها من المواد التي أضحت من الكماليات، نظراً لأسعارها الملتهبة، كي تتمكّن من الموازنة بين مدخول عائلتها المتواضع وضرورات مائدة إفطار لا تقارن بما تروّجه الإعلانات التلفزيونية التي تتفنّن في تعذيب ضعاف الحال، بما تعرضه من منتجات وموائد تفوق تكلفتها بكثير إمكانات التونسيّ العاديّ.

أمّا مصطفى البيّاري، الموظّف في إحدى الشركات، فيقول "إنّ العائلات التونسيّة تحاول التحايل قدر الإمكان خلال شهر رمضان، من أجل توفير مائدة إفطار لائقة، وهو أمر أصبح شبه مستحيل بالإمكانات الذاتيّة للمواطن العاديّ، نظراً لارتفاع تكاليف العيش، ما يدفع الناس في نهاية المطاف إلى الاستدانة". كلام البيّاري تؤكّده دراسة صادرة عن مركز الدراسات والبحوث والتوثيق والتي أشارت إلى أنّ أغلب العائلات التونسيّة مدينة للبنوك والمؤسسات المالية بقروض تختلف مبالغها وآجال سدادها. إذ بيّن التقرير أنّ أكثر من 85% من التونسيين مدينون مالياً بنسبة 77.7% للبنوك و32.3% للأقارب والأصدقاء.

اقرأ أيضا: الشعب التونسي يتقشف المسؤولون "يفلتون" الحزام

ويوضح البيّاري، بوصفه عامل النظافة في السوق المركزيّة في تونس العاصمة، أن موائد الرحمن شهدت تقلّص عدد موائد الإفطار الخيريّة هذه السنة، عكس سنتي 2011 و2014 اللتين شهدتا استحقاقين انتخابيّين، مضيفاً أنّ السياسيّين وأحزابهم لن يسعوا إلى إطعام الأفواه الجائعة ما داموا ليسوا بحاجة لأصواتها.

شهر التخمة للميسورين

غير أن بعض التونسيّين غير معنيّين بالمعاناة التي يشكو منها أغلب الناس نتيجة موجة الغلاء والطفرة الاستهلاكيّة خلال شهر رمضان، فالموائد الرمضانيّة بالنسبة للطبقة الميسورة في تونس تتحوّل من وجبة أكل إلى استعراض للمقدرة الشرائيّة. في هذا السياق، يشير مدير المعهد الوطني للاستهلاك طارق بن جازية إلى أنّ بعض موائد الإفطار في تونس تتحوّل إلى ولائم للاستعراض، نتيجة تعاظم شهوات بعض المواطنين، حيث تصل تكلفة وجبة الإفطار إلى 20 أو 30 دولاراً لليوم الواحد. ويضيف أنّ الدراسة التي أنجزها المعهد مؤخّراً بيّنت أن هذه الموائد يكون مآل ثلثها إلى القمامة، ما يعتبر قمّة التبذير والاستهتار، حيث تبلغ قيمة ما يلقيه بعض التونسيّين من الطعام في المزابل خلال شهر رمضان ما يناهز المليون دولار.

بدوره، يشرح السوسي أنّه في حين يجتهد أغلب التونسيّين لتوفير الحدّ الأدنى من ضرورات الموائد الرمضانيّة، فإنّ مصبّات القمامة تبتلع ما يكفي لإطعام آلاف العائلات المعوزة ولإعداد المئات من موائد الرحمن. رمضان، برأيه، تحوّل شيئاً فشيئاً إلى عامل آخر من عوامل الضغط الاقتصاديّ على التونسيّين، وشاهداً على عمق الهوّة بين فئات المجتمع، نتيجة تآكل الطبقة الوسطى وتدهور المقدرة الشرائية لأغلب المواطنين.
المساهمون