أظهر الحكم الأولي الصادر عن المحكمة العسكرية الإسرائيلية، أمس الثلاثاء، بحق قاتل الشهيد عبد الفتاح الشريف، مجدداً، استخفاف الاحتلال وجهازه القضائي العسكري، كما المدني، بحياة الفلسطينيين، حتى بعد إثبات أن مقتله تمّ بدم بارد وبدون مبرر وبشكل مخالف للأوامر. وقد اكتفت رئيسة هيئة القضاة العسكرية، العقيد في الجيش، مايا هيلر، بإنزال عقوبة مخففة للغاية، وأقلّ بكثير حتى مما طلبته النيابة العسكرية، عندما حكمت على الجندي القاتل أليئور أزاريا، بالسجن الفعلي لمدة 18 شهراً فقط، والسجن مع وقف التنفيذ لمدة 12 شهراً، علماً أن النيابة العسكرية طالبت بفرض عقوبة مخففة تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات من أصل 20 عاماً، هي العقوبة التي ينصّ عليها القانون الإسرائيلي في حالات القتل غير المتعمد.
ومنح قرار الحكم الأولي (لأن الدفاع أعلن عزمه رفع التماس واستئناف ضد القرار)، ضوءاً أخضر للجنود الإسرائيليين، بمواصلة عمليات الإعدام ضد الفلسطينيين، خصوصاً في حال توفرت لهم "ظروف مخففة"، أهمها غياب التوثيق لعملية القتل، مما يمكن معه طمس آثار الجريمة، كما حدث في عشرات الحالات، والاختباء وراء الادّعاء بأن "الشهيد، حاول الاعتداء على الجنود أو المستوطنين، وأن قتله كان دفاعاً عن النفس". لكن حالة الجندي القاتل أزاريا، مختلفة كلياً، حتى وفق قرار الإدانة الذي أصدرته المحكمة الإسرائيلية نفسها، مطلع الشهر الماضي. فقد أقرت المحكمة أن الجندي أطلق النار بشكل مخالف للأوامر، وبدون مبرر، ودون أن يكون معرضاً لأي خطر، لا هو ولا بقية الجنود في موقع الجريمة التي حصدت حياة الشريف في 24 مارس/آذار الماضي، بعد إطلاق النار حين كان مصاباً وممدداً على الأرض. وتم تسليط الأضواء على أزاريا، فيما لا تزال هوية مطلق النار على الشهيد رمزي القصراوي، الذي كان أعدم قبل الشريف بلحظات وعلى مسافة أمتار معدودة منه بلحظات مجهولة كلياً. وتم إخفاء أي ذكر لاستشهاد القصراوي، لأنه لم تتوفر أدلة مصورة على إعدامه من قبل الجنود، يمكن عرضها وتثبيت حالة القتل، حتى بعد أن عرضت في وقت لاحق منظمة "بتسيلم" شهادة فلسطينيتين من الخليل، هما نور أبو عيشة وأماني أبو عيشة، أكدتا في تصاريح مشفوعة بالقسم أن الشهيد القصراوي قتل هو الآخر بدم بارد. لكن قرار المحكمة الإسرائيلية أمس، لن يكون نهاية المطاف، إذ لا يزال ينتظر الجندي القاتل الاستئناف ضد القرار أولاً، وحالة تضامن شعبية إسرائيلية مؤيدة له، تطالب بعدم الزج به في السجن، ومنحه العفو العام. وهو مطلب أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، منذ قرار الإدانة في الشهر الماضي، أنه يؤيده.
لكن أهم ما أعلنه القرار بشكل غير مباشر، هو أن حياة الفلسطيني في نظر الاحتلال الإسرائيلي بمختلف أجهزته الأمنية والعسكرية، لا يزيد ثمنها عن 18 شهراً فعلياً، حتى لو طلب المدعي العسكري عقوبة تتراوح بين 3 و5 سنوات، من باب إسقاط الواجب، وتبييض صفحة الاحتلال وجيشه بأنه في حال وجود حالات شاذة لاستعمال القوة العسكرية، فإن الجيش يحاسب جنوده، ولا حاجة بعدها لمحاكمة أو إجراءات قضائية ضد هؤلاء لأنه تمت محاكمتهم أصلاً، وهو ما يتفق للوهلة الأولى مع نصوص القانون الدولي. عملياً، يمكن القول إن هذا هو الهدف الرئيسي من المحكمة التي أجريت للجندي القاتل، التي لم يتمكن الاحتلال من تفاديها، بل اضطر إليها، لتكريس ادعائه بأن جيشه يحافظ على "طهارة السلاح" وأنه في الحالات الشاذة والاستثنائية تتم معاقبة الجنود. وكان هذا عملياً الهم الوحيد من وراء مسرحية المحكمة بعد أن افتضحت عمليات القتل الميداني والإعدامات التي قام بها جنود الاحتلال خلال العامين الأخيرين في مواجهة الهبة الفلسطينية. وقد حرص قادة الجيش ورجال السياسة من نتنياهو مروراً بوزيري الأمن، موشيه يعالون، والأمن الداخلي جلعاد أردان، على تكرار وجوب ألا يخرج منفذو العمليات الفلسطينيين من العمليات التي يحاولون تنفيذها وهم على قيد الحياة.
لكن كاميرا متطوع فلسطيني في مؤسسة "بتسيلم"، وثقت عملية إعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف، ما دفع قادة إسرائيل وضمنهم نتنياهو، في الساعات الأولى بعد الجريمة إلى الادعاء باستنكار عملية الإعدام، والقول إنه ستتم محاكمة الجندي القاتل بتهمة "القتل المتعمد". وهو ما لم يصمد كثيراً، وخلال أيام تراجع نتنياهو عن تصريحاته، كما تراجعت النيابة العسكرية عن تهمة "القتل المتعمد بدم بارد"، واكتفت بتقديم تهم "القتل غير المتعمد" و"مخالفة الأوامر"، مما خفض سقف العقوبة كلياً إلى الحد الأدنى الذي طالبت به النيابة العسكرية، لتقوم رئيسة هيئة المحكمة بإنزال عقوبة هي أقل بنصف المدة من تلك التي طلبتها النيابة العسكرية. وهي عقوبة لا تزال غير نهائية مع احتمالات قبول الاستئناف على الحكم، أو إطلاق إجراءات قانونية مصحوبة بحملة شعبية وسياسية في إسرائيل لضمان منح الجندي القاتل العفو التام. وقد سبق في هذا المضمار أن أعرب 70 في المائة من الإسرائيليين في استطلاعات مختلفة، عن تأييدهم للعفو التام عن الجندي ومطالبتهم بعدم محاكمته أصلاً واعتبار جريمته دفاعاً عن النفس.
وينطبق الأمر على عشرات الحالات الأخرى التي تم توثيق بعضها، والتي تؤكد أن الشهداء لم يكونوا خطرين على الجنود، وهذا ما حدث في قضية إعدام الشهيد مهند الحلبي عند باب العامود مع اندلاع الهبة الفلسطينية في أكتوبر/تشرين الأول 2015 والشهيدة هديل الهشلمون في الخليل، والشهيدة هديل عواد التي حاولت الدفاع عن نفسها ومعها ابنة خالتها نور عواد، وهما تحملان مقصين فقط. كما كشف تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، صدر قبل عدة أشهر، قتل الاحتلال أكثر من مائة فلسطيني خلال الهبة الفلسطينية، في ملابسات تعزز القول باعتماد سياسة إعدام ميدانية.
وقد كررت رئيسة هيئة القضاة العسكرية، أمس، ما فعلته من إصدار قرار الإدانة الأول في يناير الماضي، خلال إصدار قرار قضائي، عبر قراءة حيثياته كاملة مع افتعال عملية مفاضلة بين خطورة الجرم. وكررت القاضية في أكثر من موقع أن الجندي أطلق النار بشكل مخالف للقانون، ومن دون أن يكون هناك أي خطر عليه، وأنه لم يعبر عن ندمه على ما فعله، وهي أمور قالت إنه ينبغي أن تنعكس في قرار الحكم. وفي الشق الثاني لقرار الحكم وفرض العقوبة، ادعت بوجود عوامل مخففة في فرض العقوبة (وهو ما كانت نفته أصلاً عند قرار الإدانة في الشهر الماضي). وهكذا عللت القاضية بأنها المرة الأولى التي يجد فيها الجندي القاتل نفسه في ملابسات مواجهة ميدانية حقيقية، كما أشارت فجأة إلى حالة التوتر الأمني التي كانت سائدة في موقع الجريمة، ووجود إنذارات بشأن وقوع عمليات ضد الجنود، ثم ادعائها بأن الجندي القاتل، وحتى وقوع العملية كان متوقفاً في خدمته العسكرية وجندياً عادياً لم يسبق له أن خرق القانون. ومع إعلانها لفترة العقوبة، اتضح نهائيا أن كل محاولات التعليل القانونية والحديث عن طهارة السلاح ووجوب معاقبة الجندي القاتل، وأن يكون العقاب ملائماً لنوع الجريمة، لم يكن أكثر من ديكور لإتمام صورة المحاكمة الرصينة والجادة التي تأخذ بكل الأدلة.