مهرجان روتردام بنسخته الـ 49: منبر السينما المستقلّة

31 يناير 2020
بدرو كوستا: المهرجانات السينمائية فاسدة (بيار ماركو تاكّا/ Getty)
+ الخط -
"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، المُقام في ثاني أكبر المدن الهولندية، يفتتح المهرجانات الشتوية الكبيرة في أوروبا، ويتقاطع أحياناً مع تظاهرة سينمائية أخرى تُعقد في أميركا، وهي "ساندانس". كلاهما يُعتبر أبرز منبر للأفلام المستقلّة، تلك المموَّلة برساميل محدودة، والمُنجَزة خارج وصاية الشركات الكبرى، والموزَّعة على نطاق ضيّق.

"مهرجان روتدرام"، الذي تجرى دورته الـ49 بين 22 يناير/ كانون الثاني و2 فبراير/ شباط 2020، يعرض 300 فيلم، في برنامجٍ ينطوي على الغث والسمين، إلى درجة أنّ المكان يصبح أشبه بسوبرماركت للأفلام، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. لكنْ، خلافاً لمهرجانات "كانّ" والبندقية وبرلين، يوجد "صفر تباهي" في روتردام. أيْ نوع من أنواع البهرجة مرفوض رفضاً قاطعاً في الثقافة المهرجاناتية الهولندية. هناك سينما فحسب، لا شيء حولها، فوقها أو تحتها. على الفيلم أنْ يُروّج لنفسه بنفسه. لا سجادة حمراء ولا نجوم. كلّ شيء يجري بجدية وصرامة. هَمّ الإدارة الأول ليس الاعتزاز بحصولها على عرض عالمي أول لهذا الفيلم أو ذاك، بل الإتيان بكلّ مُستجدّ ومُثير للجمهور الهولندي.

الاهتمام بالسينما في "مهرجان روتردام" محفّزه ثقافي محض. أحد تجليّات هذا الاهتمام يأتي على شكل دعم التجارب الأكثر حاجة إلى دعم. لهذا السبب، ولدت فكرة صندوق يحمل اسم المؤسّس هوبر بالز، يوفّر مساعدات مالية لأفلام من دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وشرق أوروبا.

الجمهور الهولندي يُتابع كلّ شاردة وواردة في المهرجان، ويحضر بأعداد كبيرة. الصالات ممتلئة بنسبة 99 بالمائة من العروض، صباحاً وظهراً ومساءً، في منتصف الأسبوع أو نهايته. لا يُفرّق المُشاهد المُلمّ بالثقافة السينمائية بين فيلمٍ هندي أو أميركي أو بلغاري أو مغربي. الأعمال كلّها، مهما يكن مستواها، تستحق المُشاهدة. جمهور يقوده الفضول إلى الاطّلاع على ثقافات بعيدة، يجهل تفاصيلها. لهذا، يشهد المهرجان كلّ عام إيرادات عالية جداً، إذْ يتخطّى عدد المُشاهدين الـ300 ألف. هذا عدد قريب من عدد البطاقات المباعة في "مهرجان برلين السينمائي"، المنعقد بعد نحو شهر من "مهرجان روتردام".

الكَمّ الهائل من الأفلام، الآتية من أصقاع الأرض كافة والمعروضة في "مهرجان روتردام"، لا يُسهّل على المُشاهد عملية الاختيار، على غرار ما يفعله في مهرجانات أخرى، مستعيناً بقلم وورقة ومحرّك البحث على "إنترنت". يفرض المهرجان نوعاً آخر من التعاطي مع الأفلام. الخيار الأنسب هو الدخول عشوائياً إلى الصالة. ذلك أنّه لا توجد مرجعية يُستَند إليها لاختيار هذا الفيلم وتجاهل ذاك. معظم الأعمال المُشاركة غير معروفة، لسينمائيين إما مُهمّشين أو يخطون أولى خطواتهم في الإخراج. إلى ذلك، يُقدّم المهرجان استعادات لأفلامٍ معروضة في مهرجانات كبيرة، سانحاً فرصة ثانية لاقتناصها.



لا شيء في "مهرجان روتردام" يمنع الناس من ارتياد الصالات. لا البرد القارس، ولا النشاطات الكثيرة التي يُمكن القيام بها ما إنْ تطلّ الشمس الخجولة برأسها. الطوابير تصطفّ أمام الصالات كلّ أيام انعقاد الحدث. يستغلّ الناس هذه اللحظات المعدودة لتبادل أطراف الحديث، أو مناقشة أفلام الأمس، قبل الشروع في المُشاهدة. أما داخل الصالات، فلا شيء من الذي نرى ونسمع على أبوابها: حروب، مآسٍ، هجرة، عذابات نفسية، مشاكل عائلية، كوارث بيئية، إلخ. قصص الناس ومعاناتهم يتمّ وضعها في متناول متفرّج أوروبي يمتاز بالفضول. ما يراه على الشاشة من محنٍ، تحدث بعيداً من حديقة منزله، يعطيه أسباباً للتباهي والقول إنّه على الأقلّ يعيش في بلدٍ مستقرٍ، كلّ شيء فيه على ما يرام.

الدورة الحالية تحمل رقم 49. هذه آخر دورة للمدير الفنّي بيرو بيير، الذي يسلّم الدفة للكرواتية فانيا كالودجرتشيك. بيير ألقى خلال حفل الافتتاح كلمة مؤثرة، أشار فيها إلى ضرورة أنْ يتواصل العالم الذي نعيش فيه حالياً عبر السينما: "من خلال الأفلام، نطرح أسئلة عميقة في بحثنا المزمن عن الحقيقة"، كما قال، قبل أنْ يختم بأنّ الحقيقة المطلقة الوحيدة هي الحبّ.

أفلام هذا العام تُقدّم بانوراما عن الحياة على هذا الكوكب، من شوارع اليونان إلى أدغال فنزويلا، كـ"حالة المادة" للتركي الشاب دنيز تورتوم، الذي يشكّل "اقتحاماً" لأحد مستشفيات إسطنبول، حيث أبصر النور قبل 31 عاماً، وحيث يعمل والده طبيباً. كاميرا تورتوم تروح وتجيء في أروقة هذا المكان، حيث تختلط الأحزان بالأفراح. يُقدّم الفيلم المستشفى بيئةً للحياة والموت. يُظهِر الأطباء وهم يجرون عمليات جراحية، وينخرط في أحاديثهم، ويردّ الاعتبار إلى الأشياء كلّها التي لا نراها عادة. هل الفيلم سياسي؟ يردّ المخرج: "ربما يكون كذلك إذا قاربته من منظور سياسي، كون مبنى المستشفى مُعرّضاً للهدم، لتشييد مبانٍ حديثة مكانه".

فيلم آخر يُعرض في المهرجان للمرة الأولى: "عائلة عادية بامتياز" للدنماركية مالو ريمان، التي تؤفلم حكاية والدها، الذي قرر ذات يوم التحوّل إلى امرأة، ليصبح من العابرين جنسياً. كانت الابنة آنذاك تبلغ 11 عاماً. هذا التحوّل ترك فيها تأثيراً بالغاً. هذه التراجيديا الأسرية تعالجها ريمان بالكثير من الروح المرحة والتسامح، لتجعل منها لحظة قابلة للعيش معها، من دون أي إحساس سلبي تجاه الوالد.

فيلم آخر يستند إلى فكرة غير مُستهلكة: "عيد ميلاد مجيد، ييوو" للصربي ملادن كوفاتشيفيتش، الذاهب إلى المدينة الصينية "ييوو" لتصوير مصانع ألعاب وزينة أعياد الميلاد، التي تجتاح المدن الغربية. في "ييوو"، هناك أكثر من 600 مصنع من هذا النوع، يدخل الفيلم إلى يوميات عمّالها، ليلتقط حكايات أناس يصنعون سلعاً لا تمت إلى عقيدتهم بصلة. الفيلم يقدّم نقداً خفيفاً لبلد شيوعي (الصين) دخل الرأسمالية من بابها العريض.

"بينبول" للروسي كنتمير بالاغوف حظي أيضاً بعرض في روتردام، بعد جولة دولية ناجحة عقب عرضه الأول في "كانّ". فيلم يكاد يكون تحفة سينمائية في براعته السردية، وقدرته على التقاط التفاصيل، والعودة إلى فصل من التاريخ الروسي الحديث بلغة سينمائية باهرة. استند بالاغوف إلى نصوص نساء سوفييتيات خلال الحرب العالمية الثانية، لينجز فيلماً يجمع بين الملحمة التاريخية والحكايات الفردية. في الجمع بين العام والخاص، بدا واضحاً أنّه سليل تراث روسي عريق. يصوّر "بينبول" شخصيات في حالة تخبّط. لكنّ النظرة الملقاة عليها تُعدّ درساً في الرقّة والحنان.

فيلم آخر خارج عن المألوف: "أبيض على أبيض" للتشيلي ثيو كورت. عمل يُمكن اعتباره وسترن، يدور حول شخصية بدرو، المصوّر الفوتوغرافي، الذي يُطلب منه تصوير عروس رجل إقطاعي. لكنّه يكتشف حقائق تجعله يلوذ بالفرار. عبر إمعانه في لغة بصرية جدّ مبلورة، يطرح الفيلم العلاقة بين الفنّان وموضوعه. فيلم كورت تجربة تخاطب الحواس وتحملنا إلى ذروة سينمائية.

ختاماً، إحدى اللحظات القوية في مهرجان هذا العام حضور البرتغالي بدرو كوستا لعرض فيلمه الأحدث "فيتالينا فاريلا". بعد العرض، قدّم كوستا درساً سينمائياً، فتح فيه النار على المنظومة السينمائية بأكملها: "المهرجانات السينمائية فاسدة. يجب عدم قبول فكرة صندوق دعم. ما يحصل الآن سلبي. وكلاء بيع الأفلام يجب ألا يكونوا موجودين. يجب ألا يتعلّم المخرج كيف يقدّم مشروعه أو يبيع فكرته. لهذا السبب، السينما في أزمة عميقة اليوم. على السينمائيين أنْ يتعلّموا كيفية الاقتصاد في صناعة أفلامهم. هم لا يحتاجون إلى هذا كلّه، الذي يحدث الآن".
دلالات
المساهمون