تكفي كلمات قليلة كي تؤكّد، مجدّدًا، أن لا خلاص لـ"مهرجان بيروت الدولي للسينما" من بعض فوضاه القاتلة. ارتباكاته العديدة معروفة. مناقشتها لن تستدعي تنبّهًا لدى إدارته، إذْ لن تبالي بأي قولٍ راغبٍ في تحصين المهرجان من هفواتٍ وسقطاتٍ تتكرّر بين حينٍ وآخر. كلامٌ كهذا قيل مرارًا. الانفضاض عنه غير مؤثّر به. إيجابياته عاجزة عن حمايته من صيتٍ سيئ. برامجه غنيّة بأفلام مهمّة تعرفها مهرجانات دولية، لكنها (برامجه) غير قادرة على إنقاذه من تلفٍ يُصيبه. تمكّنه من دعوة سينمائيين لهم حضورٌ متنوّع المستويات في العالم تجعله حيّزًا للقاءات يستفيد منها مهتمّون ونقّاد. لكن دعوة كهذه أضعف من أن تصنع له مكانةً لائقة بالسينما والمدينة، ومن أن تُثبِّتها في المشهد اللبناني المنفتح على الخارج.
بيانٌ صادر عن إدارته (5 سبتمبر/ أيلول 2018) يُحرِّض على قولٍ يتردّد دائمًا، لكنه يبقى من دون جدوى. بيان يُراد له أن يكون إعلانًا عن تأجيل "دورة 2018"، فإذا به يكشف مشاريع واتفاقات جديدة. هذه الأخيرة مطلوبة، لكن تبرير التأجيل دافعٌ إلى انتقادٍ، ولو سريعٍ، لعطبٍ يبدو أن إدارة المهرجان غير معنيّة إطلاقًا بإصلاحه، وإصلاحه ممكن وبسيط: وضوح الرؤية وصلابة الموقف وتحويل المهرجان إلى مؤسّسة.
يقول البيان بتأجيل الدورة الجديدة "بضعة أشهرٍ". قرارٌ كهذا مُتّخذ "بعد تفكيرٍ مليّ"، بسبب "الوضع الاقتصادي الحرج، بالإضافة إلى المخاوف السياسية الإقليمية المتزايدة".
قبل أعوام، يُشير بيانٌ مُشابه للمهرجان نفسه إلى أسبابٍ هي نفسها تحول دون إقامة دورة حينها. يفوت إدارة المهرجان البيروتي الدولي أن الأسباب المختارة لإعلان التأجيل، ولو "بضعة أشهر"، حاضرة في لبنان ومحيطه العربي ودائرته الإقليمية ومداه الدولي. يفوت إدارة المهرجان أن "الوضع الاقتصادي الحرج" و"المخاوف السياسية الإقليمية المتزايدة" لن تُحَلّ البتّة في غضون أشهرٍ قليلة، ولا في الأعوام المقبلة ربما. يفوت إدارة المهرجان أن التحايل بالكلمات على حقيقة خلله وعطبه لن يُقنع معنيين ومهتمّين بالشأن الثقافي العام، والسينمائيّ الخاص. فهناك قناعةً شبه كاملة بأن عجز إدارة المهرجان عن وضع خطط بعيدة المدى، واتّكالها على صداقات وعلاقات عامة لتنظيم دوراتٍ سنوية، وغموض هوية المهرجان ومغزاه، والتغاضي شبه المطلق عن الآليات الأساسية لتنظيم مهرجان سينمائيّ يحمل اسم بيروت، أمورٌ غير خافية عمن يهتمّ ويكترث.
في المقابل، كيف يُمكن الاقتناع بأسبابٍ كهذه، تدفع "مهرجان بيروت الدولي للسينما" إلى تأجيل دورته تلك، في وقتٍ تُقام فيه الدورة الـ13 (17 ـ 21 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان الفيلم اللبناني"؟ كيف يُمكن أن تطال الأسبابُ هذه مهرجانًا من دون الآخر؟ كيف يُمكن قبول حُججٍ كتلك عشية إطلاق احتفالٍ سينمائيّ جديد، وإنْ يبقى محلّيًا، إلاّ أنه يتّخذ من ريفٍ لبناني حيّزًا جغرافيًا لعروض سينمائية لبنانية، كـ"ريف: أيام بيئية وسينمائية" (15 ـ 16 سبتمبر/ أيلول 2018، في بلدة القبيّات ـ عكّار)؟ وماذا عن النسخة الـ5 لـ"أسبوع السينما الألمانية"، المُقامة بين 13 و23 سبتمبر/ أيلول 2018 في سينما "متروبوليس"؟
3 نشاطات سينمائية، بعضها قديم، تُقام في المواعيد المحدّدة سابقًا، من دون الرضوخ لأسبابٍ كتلك التي تدفع "مهرجان بيروت الدولي للسينما" إلى تأجيل دورته الجديدة "بضعة أشهر". الأسباب المذكورة منعكسةٌ سلبياً على وضع لبناني هشّ إلى درجة الانهيار الكامل. هذا صحيح. لكن، كيف يُمكن لأسباب كهذه أن تُعطِّل مهرجانًا من دون آخر، وتعطيلٌ كهذا لا علاقة له بتعطيل بلدٍ، فالبلد مُعطَّل لأسبابٍ مرتبطة بالانشقاقات السياسية والطائفية ـ المذهبية، وبالبؤس الاقتصادي ـ الاجتماعي، وبالغياب شبه التام لحراك مدنيّ حيوي فاعل، يخرج على سلطات الأنظمة المتحكّمة بالبلد كي يواجهها؟
بعيدًا عن مصاعب العيش اللبناني في يومياته كلّها، يبدو أن المهرجان البيروتي الدولي هو الذي يمرّ بوضع اقتصادي حرج، وإدارته هي التي تعاني مخاوف من تزايد انهياراته وفوضاه، ومنظّموه غير قادرين على ترتيب برنامجٍ يُخفِّف، ولو قليلاً، من ارتباكاته وضياعه، وهي ارتباكات وضياع يتغاضى عنها مهتمّون ومتابعون لمُشاهدة الأفلام المختارة، وبعضها يستحقّ المُشاهدة في صالة سينمائية، وهذا حاصلٌ في دورات سابقة. لذا، لن تُقنع إدارة المهرجان هؤلاء بأسبابٍ يعرفون مثلها (الإدارة) أنها (الأسباب) حاضرةٌ في جغرافيا الشرق الأوسط منذ سنين مديدة، وباقية إلى أجل غير مُسمّى.
متابعو المهرجان، المؤسَّس قبل 21 عامًا، يُدركون تمامًا التخبّطات التي يمرّ بها "مهرجان بيروت الدولي للسينما"، إنْ بالنسبة إلى اسمه المتبدّل مرارًا قبل الاستقرار على هذا الأخير، وإنْ بالنسبة إلى مواعيده السنوية المتنقّلة بين أوقات مختلفة، وإنْ بالنسبة إلى مكان إقامته المتبدّلة غالبًا قبل العودة إلى صالة "سينما متروبوليس" مؤخّرًا. عام 2017 هو عام الاحتفال بمرور 20 عامًا على تأسيسه، أثناء تنظيم الدورة الـ17 (4 ـ 12 أكتوبر/ تشرين الأول). لكن مناسبة كهذه تمرّ سريعًا، بدلاً من أن تُشكِّل لحظة تأمّل عميق وهادئ وحقيقي في تاريخٍ ومسارات واشتغال، بهدف ترتيب أحواله ودفعه إلى واجهة المشهد بفعاليةٍ مطلوبة لمدينة تعاني تمزّقات كثيرة.