لشهور عديدة لم يعرف المهاجرون إلا البحر، في هروبهم نحو أوروبا. بعد خروجهم من جحيم الحروب الدائرة في بلدانهم، تأتي السواحل التركية كنقطة انطلاق أولى لهؤلاء الطامحين إلى بلوغ الفردوس الأوروبي. لكن، مع بدء تطبيق الاتفاق التركي الأوروبي، تغيّر مسار الأمور بعد اكتظاظ الجزر اليونانية بجموع المهاجرين وتحوّلها إلى ما يشبه مستودعات يتكدّس فيها الوافدون منهم عبر البحر. بالتالي، عرف هؤلاء أنّ بقاءهم في أوروبا قصير الأجل وأنّ خط العودة قد فتح، لا مفرّ.
يتطلّع هؤلاء المهاجرون في اليونان إلى الحرية، بعيداً عن ظروف العنف والقهر والفقر والذل والاعتقال التي عانوها في أوطانهم، قبل أن يقضي الاتفاق - الصفقة على آمالهم. يُذكر أنّ الاتفاق كان محل انتقاد عدد من المسؤولين الأوروبيين، من بينهم المفوض السابق للاتحاد الأوروبي غونتر فيرهوغن الذي عبّر عن قلقه قائلاً إنّ "هذا الاتفاق لا ينسجم مع القيم الأوروبية"، سائلاً: "ماذا نفعل مع أولئك الذين هم في حاجة إلى الحماية بموجب القانون الدولي مثل كبار السنّ والأطفال والحوامل؟". وقد أشار إلى أن التعامل يأتي مع هؤلاء كسلع، مؤكداً على أنّ البديل الوحيد للاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا هو ضمان تغيّر الظروف السياسية في البلدان التي يأتي منها المهاجرون وإنهاء الصراع في سورية.
يواجهون واقعهم
منذ اللحظة الأولى لبدء تنفيذ الاتفاق بداية الأسبوع الجاري، يواجه المهاجرون في اليونان واقعهم المرير وهم يتوسلون معرفة مصيرهم عند إعادتهم إلى تركيا. وما يزيد قلقهم هو مغادرة متطوعي وموظفي المنظمات غير الحكومية مخيمات اللجوء في اليونان، بعدما وجدوا صعوبة في التكيّف مع ظروف العمل المستجدة على إثر الاتفاق - الصفقة، رافضين أن يكونوا "حراس السجن". وهو الأمر الذي نتج عنه خلل في عمليات التسجيل، فلم تعد تُنجَز أكثر من خمسة طلبات فقط يومياً، والسبب أنّ موظفي تلك الهيئات كانوا مسؤولين عن كثير من تلك المهام.
وللاحتجاج على هذا الواقع، عمد عدد كبير من المهاجرين خلال الأيام الماضية، لا سيما من هم داخل مخيم موريا في جزيرة ليسبوس، إلى الاعتصام كوسيلة للتعبير عن رفضهم للترحيل الوشيك إلى تركيا، علماً أن عدداً كبيراً من هؤلاء هرب من المخيمات التي احتجزوا في داخلها.
حاولت المنظمات الإنسانية والحقوقية حثّ المهاجرين على عدم المغامرة بحياتهم والهروب نحو اليونان، كون جزيرة ليسبوس سوف تكون نهاية مطاف رحلتهم، إذ إنّ آلاف المهاجرين محتجزون داخل المخيمات والتحضيرات قائمة لإعادتهم إلى تركيا بحراً، على الرغم من التشكيك في الظروف الملائمة لاستقبالهم هناك. ويبقى الأمل في توفير مزيد من الحماية والرعاية لهم، مع النقص في الإمكانات اللوجستية وفقدان البنية التحية، علماً أنّ العمل بها بدأ في عدد من نقاط التجمع، قبل يوم واحد من سريان الاتفاق.
تجدر الإشارة إلى أنه سوف يُعمد إلى تصنيف المهاجرين والفصل بين السوريين والعراقيين والأفارقة والمواطنين الآسيويين الباقين، إلا أنّ اللغط يبقى قائماً حول ما إذا كان الاتفاق سوف يبقى سارياً بعدما تستوعب أوروبا العدد المتفق عليه والمقدر بـ72 ألف طالب لجوء. ويُطرح أيضاً السؤال حول الموقف الأوروبي بعد ذلك، عدا عن الجهة التي سوف تتحمل مصاريف النقل من تركيا إلى البلدان الأصلية (أفغانستان وبنغلادش مثالاً) وكيفية التعامل مع البلدان التي رفضت أساساً استقبال مواطنيها (باكستان مثالاً).
إلى ذلك، فإنّ عودة عدد كبير من مواطني أفغانستان سوف تكون مخالفة للقوانين الدولية إذ إنهم معرضون للاعتقال أو الإعدام من قبل حركة طالبان. وهذا ما يتطلب من الاتحاد الأوروبي واليونان الإسراع في إنجاز اللجوء السياسي للعديد منهم، علماً أنّ ثمّة توجهاً لدى المفوضية الأوروبية لإنشاء لجنة يقتصر دورها على تحديد من يحقّ له اللجوء، وفق ما ذكرت صحيفة "دي فيلت" الألمانية. بالتالي، تتحوّل المسؤولية لمعالجة طلبات اللجوء من المستوى الوطني إلى مستوى الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى اعتماد آلية واحدة ومركزية لاتخاذ القرار وضمان تقييم ثابت يرتكز على احتياجات الحماية. وهو ما رأت فيه منظمة حقوق الإنسان الألمانية "بروازول" تدبيراً غير عملي ومناورة سياسية من قبل المفوضية، فيما شكّك مديرها التنفيذي غونتر بوركهاردت في تصريح لصحيفة "نويه تسايتونغ أوسنابروغر" الألمانية بالخطط المتبعة لاتخاذ قرارات اللجوء، مطالباً بإمكانية السماح للمهاجرين المرفوضة طلبات لجوئهم بالتقدّم باعتراض على ذلك.
وفي ما يتعلق بألمانيا، بعدما سُمح لكلّ بلد باختيار المهاجرين طالبي اللجوء الذين سوف يستقبلهم، وضعت برلين معايير محددة، منها التركيز على وحدة العائلة ولمّ شملها بهدف شدّ الروابط العائلية، بالإضافة إلى القدرة على الاندماج ودرجة الحاجة إلى الحماية. ومن المقرر أن تستقبل أعداداً إضافية من المهاجرين بالطرق الشرعية خلال الأيام المقبلة، وقد يصل عددهم إلى 15 ألفاً.
المستضعفون أولويّة
بهدف مواجهة الأزمة ومعالجتها من جذورها على المستوى الأوروبي، يرى عدد من المراقبين أنّ على المدى القصير، بات المطلوب إنشاء حرس حدود أوروبي مشترك يستطيع مسك الحدود الخارجية لدول الاتحاد بطريقة فعالة، مع الحفاظ على الحدود المفتوحة. يُضاف إلى ذلك تسجيل جميع المهاجرين وطالبي اللجوء ليصار إلى تحديد الأسماء وإبقاء المستضعفين والمضطهدين، بالتالي يصبح من الممكن معرفة من يدخل أوروبا ومن يغادرها. أما على المدى المتوسط، فالمطلوب اعتماد نظام التوزيع العادل للمهاجرين طالبي اللجوء داخل دول الاتحاد الأوروبي، بينما يأتي على المدى الطويل إقرار قانون الهجرة الأوروبية المشتركة بهدف إمكانية التدقيق بالملفات على المستوى الأوروبي وزيادة مستوى التعاون بخصوص طالبي اللجوء للتمييز على وجه السرعة طالب اللجوء الاقتصادي عن الإنساني والسياسي. ولعلّ الأهم من ذلك يبقى الاستثمار في مجالات الاندماج والتدريب، لأن هؤلاء الناس يستحقون الحصول على فرصة لإثبات قدراتهم وليس عزلهم داخل أحياء مغلقة.
تركيا تحذّر الاتحاد الأوروبي
وفي آخر المستجدات، حذّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمس من أن تركيا "لن تطبّق" الاتفاق المثير للجدل حول المهاجرين الذي أبرم مع بروكسل. وقال إنّ "ثمة شروطاً محددة. إذا لم يقم الاتحاد الاوروبي بالخطوات الضرورية وإذا لم يفِ بالتزاماته، فلن تطبّق تركيا الاتفاق"، مشيراً إلى المساعدة المالية التي قررتها بروكسل والوعد بإلغاء التأشيرات التي يفرضها الاتحاد على المواطنين الأتراك، في يونيو/حزيران المقبل.