من واقع ثوراتنا.. عن كرب ما بعد الصدمة مجدداً

18 ديسمبر 2014
تؤثر التجارب العنيفة على معتقداتنا وإيماننا بالعالم من حولنا(Getty)
+ الخط -

تحدثت في المقال السابق في ملحق "جيل" عن تعريف وأعراض كرب (أو توتر) ما بعد الصدمة. كانت معظم التعليقات والأسئلة التي وصلتني تتساءل عن طرق مواجهة هذه المشكلة، وهذه مسألة يطول شرحها وتحتاج في أحيان كثيرة إلى مساندة محترفة. ما أحاول القيام به هنا هو تعريف القارئ بالمشكلة وتوجيهه إلى طرق بسيطة لمقاومتها.

لا تعود الحياة إلى ما كانت عليه بعدما يطلق عليك الرصاص، وبعدما تشهد جرائم ضد الإنسانية، أو تتعرض للتعذيب. قد تكون هذه معلومة بديهية لدى البعض، لكن ما يغيب عنا، أن التعرض لهذه الأخبار والعمل عليها بشكل مطول يؤدي أيضاً إلى نتيجة مشابهة.

تؤثر التجارب العنيفة على معتقداتنا وإيماننا بالعالم من حولنا، وهي إجابات نعرفها سلفاً، عن أسئلة أساسية نشكلها من خلال الدين، والثقافة المجتمعية، والتعليم. هذه المعتقدات تشكل كيفية تصرفنا، وتصف لنا معنى الاختيارات التي نقوم بها. الطريقة التي ننظر بها لأنفسنا، وللآخرين والعالم من حولنا.

الحوادث العنيفة تشوّه أو تغير هذه المعتقدات من خلال تشويه الاحتياجات الخمسة الرئيسية للنفس البشرية وهي: الأمان، الثقة، القوة، الاحترام، والألفة. قدرتنا على معرفة كيف تؤثر هذه الجوانب على نفسياتنا، يساعدنا على تصحيح الخلل، وتجاوز المحنة.

متلازمة كرب ما بعد الصدمة تحدث بعد انتهاء الحادث عادة، لكن بعد استمرار التعرض لحوادث العنف، كما هو الحال في المشرق العربي حالياً، العيش تحت تهديد الخوف على الحياة بشكل مستمر من جهة، واستمرار التعرض للمحفزات العاطفية من قبيل المحتوى المؤلم لصور الدمار والقتل الشنيع والمنتشرة على نشرات الأخبار، والتي يتسابق الناس على عرضها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، للفت الانتباه بحسن نية أو فقط لشدّ الأنظار لمن ينشر هذه المواد.

تكرار التعرض يؤدي إلى ما يُسمّى بكرب ما بعد الصدمة المعقد (Complex PTSD) وهو ما يواجهه ضحايا الحروب الأهلية، أو من يعيش في مناطق صراع طويلة، وهو، أيضاً، ما نراه في أكثر من بلد في المنطقة. تكمن المشكلة هنا أنها ليست حالات فردية إجمالاً، خصوصاً عند البالغين، لكنها قد تصيب بعض الأفراد بالنسبة للأطفال مما قد ينتج عدة ظواهر، منها الإدمان على العنف أو حتى الإدمان على الحرب، نرى مجتمعات تجد صعوبة بالغة في الخروج من آليات الحرب إلى السلم، ويتم إغفال الجانب الفردي والنفسي هنا كثيراً. وتنقسم أعراضه إلى سبع مجموعات كما يلي:

1- خلل في التحكم بين المشاعر والاندفاع، ويظهر من خلال قلة التحكم بالغضب، نزعات الانتحار، المخاطرة غير المحسوبة.

2- خلل في الانتباه والتركيز.

3- تأثر الجسد: الأعراض الهضمية كالمغص، الآلام المزمنة، الأعراض القلبية، الهلع، أعراض جنسية.

4- تغير الوعي بالذات: الإحساس الدائم بالذنب، الإحساس بعدم القدرة على التأثير، تقليل تأثير الصدمة وتجنب البحث فيها.

5- تغير النظرة إلى المعتدي: تبني معتقدات المعتدي عن الذات وعما حدث، تأليه المعتدي، الهوس بإيذاء المعتدي.

6- خلل في العلاقات مع الآخرين: عدم القدرة على الثقة بالآخرين، إعادة الشعور بالذنب والشعور بالظلم، ظلم الآخرين.

7- تغير المفاهيم العامة: تغير النظرة إلى الحياة، إلى الآخرين، إلى الروحانية مما يفقد الشخص الشعور بالأمل ويعمق الشعور بالإحباط.

الأعراض الأربعة الأخيرة تعتبر تشكيلة قاتلة للفرد وللمجتمع، وحتى للحياة العامة، وهنا تكمن أهمية هذه المسألة ونقاشها والبحث فيها. لدينا الآن مجتمعات بأكملها تعرضت للاعتداء، وبعد هذا تشعر بالذنب بجريرة ليست لها، تتفاقم هذه المشكلة بفقدان النظرة إلى الذات كمؤثر في العالم الخارجي.

تبنّي قناعات المعتدي عنا، وأننا نستحق القتل والضرب والسحل والتعذيب، هذا ليس فقط كارثياً على المستوى الشخصي، لكنه كارثي على المستوى العام، وقد رأينا بأعيننا أشخاصاً كانوا يدافعون عن الضحية في يوم، وأصبحوا يدافعون عن الجلاد، هذا بخلاف، وهذه مسألة تستحق التأمل، الهوس بإيذاء المعتدي.

تَشَوّه القدرة على بناء الثقة بمن حولك يفقدك أهم مصادر قوتك كمخلوق اجتماعي، أضف إلى ذلك، ذلك المزيج السيئ بين ظلم الذات وظلم الآخرين في محاكاة خطيرة لسلوك المعتدي عليك، مما يوسع دائرة الإشكال ولا يقلصها، أو على النقيض من هذا، البحث عن شخص ما لإنقاذك، أو انتظار من ينقذك.


*طبيب يمني متخصص في طب الكوارث

المساهمون