اليُتم الطوعي في الصين... على طريق عزلة اجتماعية

09 اغسطس 2024
يعيش شبان صينيون في حالة انكسار عاطفي (غريغ بايكر/ فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تأثير سياسات تحديد النسل على الروابط الأسرية:** سياسات الطفل الواحد في الصين أدت إلى فتور المشاعر بين الأفراد، حيث يفضل الشباب البقاء في أماكن إقامتهم بدلاً من العودة لأسرهم، مما يعكس نقص الروابط العاطفية.

- **قصص شخصية تعكس الانفصال العاطفي:** لو بياو يفضل البقاء في مكان عمله خلال العطلات لتجنب المناوشات مع والده، ويشعر بعدم وجود روابط عاطفية معه، مما يدفعه للعزوف عن الزواج.

- **تداعيات اجتماعية واقتصادية:** إحجام الشباب عن العودة لأسرهم يعكس انكساراً عاطفياً ويؤدي إلى عزوفهم عن الزواج، مما يهدد بتقلص حجم الطبقة العاملة ويؤثر سلباً على المجتمع والاقتصاد.

يعتبر مراقبون أن الصين لا تزال تدفع ضريبة سياسات تحديد النسل. ومن بين مظاهرها اللافتة في الحياة الاجتماعية تعمّد العيش في حال يُتم بسبب فتور المشاعر تجاه الآخرين. 

في كل عطلة نهاية عام تشهد الصين أكبر حركة سكانية داخلية في العالم، إذ يتجه مئات ملايين العمال والموظفين إلى مدنهم وقراهم للقاء أهلهم وذويهم من أجل الاحتفال بالعام الجديد. لكن كان لافتاً هذا العام تفضيل شريحة كبيرة من الشباب قضاء الإجازة التي امتدت أسبوعاً في أماكن إقاماتهم. وهم برروا ذلك بأنهم لا يرغبون في العودة للاجتماع مع أفراد أسرهم بسبب عدم وجود أي روابط عاطفية. 
كتب أحدهم على موقع "ويبو": "بعد وفاة جدتي شعرت بيُتم حقيقي. رغم أن والديّ لا يزالان أحياء، لكن جدتي هي التي ربتني واعتنت بي عندما كنت طفلاً، لذا لم يعد يربطني شيء بقريتي بعد موتها". ويعتقد خبراء بأن اليُتم الطوعي اتجاه جديد ظهر لدى الشباب من أبناء أسر الطفل الواحد الذين لم يعيشوا في كنف أسرة متكاملة، ويحذرون من أنه قد يساهم في وأد المشاعر العاطفية ويلغي الارتباط الأسري والاجتماعي بين أفراد المجتمع. 
يعمل لو بياو في مدينة كوانزو (جنوب)، بينما تقيم أسرته في مدينة هاربين، أقصى الشمال، وهو فضل البقاء في مكان عمله أثناء العطلة الرسمية، ويقول لـ"العربي الجديد"، بقيت متردداً في شأن العودة إلى المنزل حتى الأسبوع الأخير قبل الإجازة. رغم أنها الفرصة الوحيدة التي تسنح لي خلال العام للعودة إلى بلدتي، لكنني فضلت عدم الذهاب هذه المرة، ففي سنوات سابقة كانت تحدث مناوشات بيني وبين أبي الذي يرغب في مزيد من الأموال التي أجنيها من عملي في المدينة، وأنا أشعر بأنه لا يستحقها لأنه لم يعتنِ بي عندما كنت طفلاً، وتركني أواجه الحياة وحيداً رغم سني الصغيرة حينها، كما لم يهتم بجدتي، ولم يحضر مراسم دفنها حين توفيت بسبب عمله في منطقة أخرى قبل أن يتقاعد".

ولدى سؤاله عما إذا كان يكرر تجربة والده بالابتعاد عنه، يقول: "ربما يكون الأمر صحيحاً لكنه هو المسؤول عن ذلك، ويدفع الآن ثمن إهماله لي لسنوات. الحقيقة أنني لا أشعر بأي عاطفة تجاهه، ولا أذكر في طفولتي أنه كان إلى جانبي، كما أنه لا يتصل بي الآن إلا لطلب مزيد من الأموال بحجة أن راتبه التقاعدي لا يكفي لسدّ احتياجاته"، ويلفت إلى أنه قرر العزوف عن الزواج كي لا يحدث ذلك لابنه، خصوصاً أن طبيعة الحياة في المدن الصناعية وظروفها تحتم على الموظفين والعمال الابتعاد عن أسرهم بسبب تكاليف المعيشة الباهظة وصعوبة إلحاق الأبناء بالمدارس، فضلاً عن عدم القدرة على التمتع بميزات الضمان الاجتماعي خارج مسقط رأس الفرد بحسب الضوابط والقوانين المعمول بها في البلاد. 

شبان في الصين في حلقة مفرغة من الانشغال الوظيفي والانقطاع الأسري (غريغ بايكر/ فرانس برس)
شبان في الصين في حلقة مفرغة من الانشغال الوظيفي والانقطاع الأسري (غريغ بايكر/ فرانس برس)

وعن شعوره أثناء الإجازة كونها المرة الأولى التي يقضيها وحيداً، يقول: "لا فرق إذا ذهبت أم لم أذهب. هناك أتحدث مع أبي قليلاً، ولا توجد اهتمامات أو لغة مشتركة بيننا، كما أن أمي تقيم مع زوجها في مكان آخر منذ أن انفصلت عن والدي، وهي أيضاً لا تعيرني أي اهتمام، لذا لا أشعر بأي فرق".
يقول أستاذ الدراسات الاجتماعية في جامعة "صن يات سن" وي لي فنغ، لـ"العربي الجديد"، إن "إحجام عدد كبير من الشباب عن العودة إلى مدنهم وقراهم في إجازة رأس السنة الصينية (تصادف عادة في شهر فبراير/ شباط من كل عام)، التي أعدت خصيصاً لهذا الغرض، مؤشر خطير للانكسار العاطفي لدى هذه الشريحة من المجتمع، إذ لا يمكن تبرير عدم الرغبة في لمّ الشمل والالتفاف الاجتماعي بأي ذريعة، فالأصل والمعتاد في هذه المناسبة أن تذوب الخلافات وتتقلص المسافات لاجتماع الأسرة حول مائدة واحدة لأيام معدودة طوال عام كامل من العمل"، ويرى أن "ما يحدث اليوم هو تكرار لما واجهه أبناء أسر الطفل الواحد في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أثناء سياسات تحديد النسل الصارمة التي تزامنت مع سياسة الإصلاح والانفتاح، ما تسبب في ولادة جيل لا يتمتع بأدنى مقومات الرعاية الأسرية نتيجة انشغال الآباء وانصرافهم إلى العمل في المناطق الصناعية. واليوم يكرر الأبناء التجربة بصورة عكسية، إذ يهملون الآباء الذين أصبحوا أجداداً".

يضيف: "نسير في حلقة مفرغة من الانشغال الوظيفي والانقطاع الأسري، وما يضاعف المشكلة عزوف الشباب عن الزواج وارتفاع معدلات الشيخوخة، وهكذا سنكون أمام فجوة كبيرة بين جيلين أو أكثر، وسينعكس ذلك سلباً على المجتمع في عدة نواح، في مقدمها الجانب الإنساني أو العاطفي، وأيضاً الاقتصادي الذي سيتأثر بانخفاض وتقلص حجم الطبقة العاملة في مجتمع يضم 1.4 مليار نسمة".
يشار إلى أن عطلة رأس السنة الصينية التي تتزامن عادة مع مطلع كل عام، تعتبر أهم عطلة وطنية في البلاد. وبحسب الهيئة الوطنية للهجرة ووزارة النقل الصينية، شهدت الصين في اليوم الأول من العطلة الماضية إجمالي 189 مليون رحلة ركاب في أنحاء البلاد، بزيادة 19.7% عن العام الماضي. وتجاوزت رحلات الركاب عبر السكك الحديدية 11 مليوناً، ما يمثل ارتفاعاً بنسبة 78% على أساس سنوي. كما شهدت رحلات الركاب عبر الطرق البرية والممرات المائية والطرق الجوية زيادة بنسبة 16.6% و48.6% و111% على التوالي.

المساهمون