من هيوم إلى غودمان.. هل تشرق الشمس غداً؟

27 فبراير 2020
(تمثال لـ هيوم في إدنبره، تصوير: كيم تراينور)
+ الخط -

في كتابه الذي خصَّصه لفهم الآليات العميقة في تفكير الذهن البشري، لا يرى ديفيد هيوم (1711 - 1776) أيَّة قدرةٍ أو استطاعة لدى العقل على إثبات خطأ هذه الفرضيَّة "الشمس لن تُشِرق غداً"؛ إذْ يُفرّق بدقّة بين عالمَين: عالم الواقع والأشياء، وعالم الذهن والعقل، كما تضمّنه "تحقيق في الذهن البشري".

وبسبب استحالةِ تحديد أو لجمِ قدرة العقل على التصوُّر والافتراض والتخيُّل، فإنَّ أيّة جملة أو فرضيّة، قابلة للتصوُّر الذهني بوضوح وسهولة، شرط أن تدور في أروقة العقل فقط، مثل فرضيّة "الشمس لن تشرق غداً". وبغضّ النظر عن تطابقها مع عالم الوقائع والأشياء، عالم الأدلّة المحسوسة، فإنَّه لن يكون من الممكن تخطيئها أو دحضها باستخدام العقل.

ما يمكِن تصوُّره في العقل والذهن والخيال، لا يتضمَّن أيّ تناقض أو خطأ في عالم العقل، ما دام يقعُ في نطاق قدرته على التصوّر، وما دام قابلاً لأن يصبح موضوعاً للتفكير. وعليه، فإنَّ العقل يساوي تماماً بين جملتي "الشمس لن تشرق غداً" و"الشمس ستشرق غداً". وإذا افترضنا شخصاً منعدم الذاكرة، وفارغاً بشكلٍ مطلق من التجربة البشريّة، فإنّ الجملتين تمتلكان عنده نفس درجة احتماليّة الوقوع. لكن لماذا تبدو جملة "الشمس لن تشرق غداً"، خاطئةً لدينا، مع أنَّها مستحيلة الدحض باستخدام العقل نفسه؟

إذا تركنا عالم العقل جانباً وتكلّمنا عن عالم الأشياء والوقائع، فإنَّ كلّ حدث أو واقعة، في عالمنا، تعتمد في جذورها على العلاقة بين السبب والتأثير. فإذا كنت في جزيرة معزولةٍ مثلاً، ورأيت ساعةً على الأرض، فإنّ هذه إشارةٌ حاسمة على مرور أو وجود شخص ما في هذه الجزيرة. وإذا كنت في ظلامٍ، وسمعت كلاماً يطابق الكلام البشري، فإنّك ستجزُم، حتماً، بأنّ هذا الكلام صادرٌ من بشريّ.

كلّ عمليات التفكير لدينا قائمة على بناءِ روابط في عالم الأشياء، إذْ يتمُّ استنتاج واشتقاق واقعةٍ من واقعة أخرى، اعتماداً على السبب والتأثير. ولن يتمكَّن التفكير العقلي من تفسير شيءٍ واحدٍ في هذا الوجود إذا لم يكن قادراً على إنشاء هذه الروابط، أو إدراك هذه الاستنتاجات، أو فصْل السبب عن التأثير. فوجود رابط نعرفه، بين النار (السبب) والحرارة (التأثير)، أو بين النار والضوء، هو ما يحكم تصرّفنا. هنا يضع هيوم سؤالاً آخر، سيحاول الإجابة عنه، وهو: ما هذا الرابط وكيف يتشكّل بالضبط؟

يجزمُ هيوم بأنَّ هذا الرابط لا يأتي من عالم العقل أبداً، بل من التجربة الواقعيّة المحسوسة فقط، وليس للعقل على الإطلاق، أيُّ دور بأي شكل من الأشكال في بناء هذا الرابط الذي يساعدنا في اشتقاق السبب من التأثير، والتأثير من السبب. ما معنى هذا الكلام؟ يفترضُ هيوم وجود إنسان كاملٍ خارق من الناحية العقليَّة، ولكنّه فارغ من التجربة التراكمية. ولنقل بأنّه، آدم، أوّل مخلوق بشري. إذْ أنّ آدم، هذا، مهما كان كاملاً من الناحية العقليَّة، فإنّه لن يتمكّن من معرفة واقعة بأنّ الماء الرقراق ممكن أن يسبّب له غصّة في الحلق مثلاً. وإذا رأى آدم ناراً سيحتاجُ أن يقترب منها ويلمسها بحواسه المباشرة ويحترق حتّى يتأكّد من تأثير النار المُسبِّبة ولا يكرّر الفعلة.

من دون مساعدة التجربة المباشرة، لا يستطيعُ عقلنا المحض أن يستخلص أي استنتاج حول الأشياء. ومنه نستطيعُ أن نُثبّت أوّل جملةٍ، تقول: لا يلعب العقل أيّ دورٍ في كشف الرابطة العلائقيَّة بين السبب والتأثير، وإنما تُكتشَف من خلال التجربة المباشرة المحسوسة فقط لا غير.

ويشير هيوم إلى أنَّ المعرفة القَبْليَّة، أيّ المعرفة التي لا تتولّد من خلال التجربة، لن تتمكّن أبداً من اكتشاف قدرة الرصاص على التفجير، أو قدرة المغناطيس على الجذب، هذه كلّها أمورٌ تأتي بالتجربة فقط، أيّ المعرفة البعديَّة القادمة من التجربة. ولإثبات استحالة قدرة العقل على بناء الرابط بين السبب والتأثير، وبأنّ كل قوانين الطبيعة وكلّ العمليات الجسديَّة تُكتَشف فقط من خلال التجربة، وفقط التجربة، كي نثبت هذا الكلام أكثر، لنعد إلى مثال الشمس.

في عالم العقل، كما قلنا، كلّ الاحتمالات ممكنة، فالشمس قد تشرق أو لا تشرق، أو قد لا تكون هنالك شمس أصلاً. عالم العقل هو عالم الاحتمالات والعشوائيّة. ما يحصل هو أنّه بسبب تكرار التجربة الواقعيَّة بشكلٍ منتظمٍ، ينشأ رابطٌ يتثبّت في العقل؛ فمنذ ملايين السنين تشرق الشمس كلّ صباح، ومنذ ملايين السنين معروفٌ بأنّ النار تؤدّي إلى الحرارة، هذه حقائق قادمة من التجربة. ولكن في عالم العقل النقي الفارغ من التجربة، ثمّة احتمال ألّا تؤدّي النار إلى الحرق، بل من الممكن أن تؤدّي إلى البرودة، وهنالك عدد لا نهائيّ من الاحتمالات، وليس لدى العقل أي مبرّر في تفضيل احتمالٍ على احتمالٍ آخر.

فإذا قمت بقذفٍ قطعة من الحديد إلى الأعلى، فإنها من منظور عالم العقل، من الممكن أن تسقط بأيّ اتّجاه محتمل، ولا توجد أدنى إشارة، تساعدنا على تفضيلِ احتمالٍ على آخر، أو تهدّئ من فوضى الاعتباط. لكنّ عالم التجربة يقول لنا بأنّ ثمّة جاذبية أرضيّة، اكتُشفت بالتجربة والفحص الدقيق، ويؤكّد لنا، بحسب ملايين الحالات المُشابهة، بأنّ القطعة ستهبط نحو الأسفل.

بعد التأكيد على عدم قدرة العقل على بناء أيّ رابط بين السبب والتأثير دون التجربة، نأتي إلى معضلةٍ أخرى، وهي أنّ الطبيعة، عادةً، تخفي عنّا قواها ومبادئها الأساسيَّة، أو ما يسمّيها هيوم "القوى الخفيَّة"؛ حيث تضعنا على مسافةٍ منها، وتُمكّننا فقط من معرفة الخصائص السطحيّة للأشياء الواقعيَّة. ولندعَم هذا الكلام بمثال واضح، فمن خلال لون ودرجة صلابة وشكل الخبز، أي من خلال الخصائص الشكليّة الظاهرة للخبز، ندركُ بأنّ للخبز "قوة خفيّة" وهي التغذية. وهذه "القوة الخفية" من المستحيل معرفتها من خلال الأحاسيس المباشرة أو من خلال العقل، بل فقط من خلال التجربة.

هنا يضع هيوم إشكاليّة يسمّيها "معضلة الاستقراء". وهي أننا كلما رأينا شيئاً مادياً يمتلك نفس الخصائص الملموسة السطحية للخبز، فإنّنا حتماً، واعتماداً على تجربتنا، سنفترضُ ونتوقّع نفس تأثير "القوة الخفيَّة"، وهي التغذية. علماً أنّه لا توجد أي فلسفة في التاريخ تمكّنت من كشف وتشخيص الرابط بين "الخصائص السطحية المحسوسة" (السبب) و"القوى الخفيَّة" (التأثير)، وإنما يتمّ توقُّع هذا الأمر اعتماداً فقط على خبرة ملايين التجارب السابقة. كلّما تواتر ظهور نفس الرابط من تجارب متلاحقة، ازدادت صحّة اشتقاق نفس السبب من نفس التأثير، وتكرّس في العقل ارتباط نفس "الخصائص الحسيَّة" مع نفس "القوى الخفيّة".

ويرى هيوم إشكاليّة كبيرة في هذه الخطوة الذهنيّة، أي التوقّع الحاسم الأكيد بين "الخصائص السطحية" و"القوى الخفية". فماذا مثلاً، لو كان لدينا جسم ما يمتلكُ نفس "الخصائص السطحية" للخبز، ولكنَّه لا يمتلكُ نفس "القوى الخفيّة"؟ وهل من الصحيح أن نعمّم التجربة؟ أليسَ تعميم التجربة المأخوذة من مكانٍ وزمانٍ مُعيَّنين هو ربطٌ للحاضر مع الماضي مع المستقبل، وحذفٌ لكل فكرة الزمن، بل وعائق أمام اكتشاف "قوى خفيّة" أخرى؟ أليس ظلماً أن نُحوِّل تجاربنا الماضويّة إلى مقياسٍ ومعيارٍ في الحكم على وقائع في المستقبل؟ هل التشابه بين "الخصائص الشكليّة" للأشياء، هو أمرٌ كافٍ لتوقُّع نفس تأثير "القوى الخفية"؟ سيترك هيوم هذا السؤال مفتوحاً.

بعد تحديد آليّة تشكّل هذا الرابط، وتبيان براءة العقل بالمطلق من صيرورة تشكّله، مع الاتكاء الكامل على دور التجربة، يكمل هيوم محاولاً تحديد طبيعة هذا الرابط نفسه. إذْ يبتكر مفهوماً هو "العادة" أو "التكرار"، ويراه مفهوماً مُشكّلاً لأساس الذهن البشري، والدليل الأول في قيادة الحياة. ويعرّف هيوم "العادة" بالتوقّع غير المفكّر به لحدوث شيء من حدوث شيء آخر، كالنار والحرارة، والثلج والبرودة. بل ويشيرُ إلى أنّ "العادة" على مدار ملايين السنين تشكّل "الإيمان" و"العقيدة"، بل من الممكن أن تتكرّس، لدرجة أن تصبح "غرائز إنسانيَّة".

من جهته، يقول المفكّر الأميركي نيلسون غودمان (1906 - 1998) في كتابه "Fact, Fiction, and Forecast"، إنّ تساؤل هيوم حول وجود مشكلةٍ في الاستقراء، يضرب بعرض الحائط كلّ محاولات العلوم الاجتماعيّة والسياسيَّة في توقّع نفس "القوى الخفيّة"، أي نفس التأثير والمصير والمآل، من أوضاع سياسيَّة واجتماعيَّة تمتلك نفس "الخصائص السطحيَّة".

ويأتي غودمان بالمثال الشهير في كتابه، حول حجر الزمرُّد، والذي يتحوُّل لونه على مدار السنين. إذْ يكون الزمرد أحياناً أحمر وأحياناً أخضر. وبالتالي من الممكن أن يكون سبب إطلاق صفة اللون الأحمر عليه قادماً من تجارب معيَّنة، ولم يصادف أن وثّقت تجارب تؤكّد لونه الأخضر. وبهذا المثال، يؤكّد غودمان أنَّ هنالك إمكانيَّة لحصول خطأ أثناء الاستقراء، أي محاولة تشكيل حقيقة أو قاعدة عامّة انطلاقاً من مراقبة حالات فرديَّة.

يرى غودمان أنّه في حالة الأشياء الماديّة البسيطة مثل الخبز والنار والجليد، من الجيد بناء رابطٍ دائم بين "الخصائص السطحية" و"القوى الخفيّة"، هذا يسهّل كثيراً استخدامات الحياة. ولكن في الحالات المعقّدة، خصوصاً حقول العلوم الإنسانيَّة، عند التشابه الجزئي بين وضعيات اجتماعيّة أو سياسيّة أو تاريخيَّة ما، لدولتين أو منطقتين، فمن الخطورة اشتقاق وضعٍ من وضعٍ آخر.

المساهمون