مكان الأطفال الجدير بهم هو عالم الأحلام، لا وقائع الحياة. لكن لا مهرب من الحياة؛ لا تكفُّ عن تلقيننا العبر المدوّخة، من دون جدوى ملموسة، حتى يحسب المرء أنّ الإحباط اليوميّ قد غدا من عاديّات الحياة التي صارت مثل شَرَكٍ أليف ومكروه في آن.
سما، طفلة عمرها عشرة أشهر، ذهبت إلى المطعم مع والدَيها وجدّها قبل فترة قريبة. كانوا يودّون قضاء وقتٍ خارج المنزل قليلاً. أطعمتها أمّها شيئاً من الكوسا والبطاطا المسلوقة المقدَّمة إلى جانب طبق من اللحم. دفع أهلها نحو مائة دولار ثمن الغداء، رغبة منهم في أن يروّحوا عن أنفسهم في بلادٍ اختزلت المطاعمُ ترفيهها والتلفزيوناتُ تسلياتها!
في المساء، ارتفعت حرارتها فجأة. لم ينفع مسكِّن في تخفيضها. في اليوم التالي، أخذتها أمّها الى طبيبة الأطفال التي تقاضت أجراً يضاهي نصف فاتورة المطعم لمعاينة لم تتجاوز الخمس دقائق. أوعزت الطبيبة بإدخالها فوراً إلى قسم الطوارئ لمعرفة سبب الحرارة المرتفعة. في المشفى، لم يلمسوا سما قبل أن يصلهم مبلغ الإدخال كاملاً، وبلغ قرابة أربعة أضعاف المبلغ المدفوع في المطعم.
أعدّوا في المشفى عدّة المعركة. أحدهم يفحص ضغطها ودقّات قلبها. آخرون يسحبون من بولها وآخرون يحاولون اكتشاف شريانها ليأخذوا عينة لفحص الدم وآخرون يحللون ويتناقشون ويستنتجون، وفي اعتقادهم أنّ كلّ مريض وأهله هم جاهلون بالضرورة لأحاديثهم الطبية المتداولة باللغة الأجنبية حصراً! وفي هذه المعمعة ومع تزايد الفحوصات المطلوبة، لم تتوقف سما عن البكاء. كلّ هؤلاء الناس يقتحمون عالمها الصغير بكلّ جرأة وتكبّر وهوس بالسيطرة وحبّ بالتجربة. أمّا تجربتها الجديدة هي فكانت مع الألم والوهن والحرارة المرتفعة. جاؤوا بعد أن هدأت وغفت على حليب أمّها، وقالوا إنّ ثمّة خطأ في عيّنة الدم. أحدهم أخطأ ونريد أن نسحب من الطفلة الدم مجدداً. "لا تقلقي، سيُرفع تقرير حول المسؤول عن هذا الخطأ"، طمأنوا الأمّ الحزينة. سما نائمة. تدخل الإبرة في إصبعها الصغيرة وتوقظها على وقع الألم المفاجئ. تصرخ وتبكي مجدداً لوقت طويل. يسيل الدم قطرة إثر قطرة وقلب الأمّ ينزف مثله. وبعد يوم طويل وشاق خضعت خلاله سما لحقل التجارب العلميّة، قيل إنّها تعاني من التهاب جرثومي، ولكن لا يمكن أن يتأكد مصدره. لا يمكن الجزم بشيء، فالفيروسات لا حصر لها، قد تأتي من الغذاء والماء والهواء، وهي كثيرة في بلاد النفايات. تعود سما إلى بيتها وعالمها الصغير مع حرارة مرتفعة وألم مضاعف وخوف يذكّرها بكلّ ما يتعلّق بأدوات المشفى وبغرباء لا يفقهون لغة الأطفال ولا يقدّرون إحساسهم، غرباء كانت قبل ذلك اليوم تبتسم لهم مُلوّحة بيدها الصغيرة.