من قصّاب باشي إلى منيف: المهم هو النور

24 أكتوبر 2016
(قصّاب باشي)
+ الخط -
يُسمّى برسّام الشخصيات، ويمثّل مروان قصاب باشي الفنان التشكيلي السوري الألماني (1934 – 2016) هذه التسمية حقاً، ومن ينظر إلى لوحاته ذات الحجم الكبير غالباً يرى وجوه شخصياتها، التي توحي دوماً باستعدادها للنمو، عاطفياً وفيزيائياً، لتشقّ إطار اللوحات، وتخرج إلى العالم، تماماً مثلما تفعل شخصيات روائية عظيمة، تفوق مؤلفيها شهرة وعمراً.

بدأ قصّاب باشي الرسم عام 1957، بعد أن وصل برلين على متن قارب مطاطي أقلّه من بيروت إلى مدينة جنوا الإيطالية، ومن هناك، كان يريد التوجه إلى باريس التي أسماها "كعبة الفنون". لكن الخلافات السياسية بعد تأميم قناة السويس في ذلك الحين منعت أي شخص يحمل جواز سفرٍ سوري أو مصري من دخول عاصمة الأنوار، كما يروي الناقد الصحافي جيمس باري عنه في مقابلة أجراها معه.

استقرّ صاحب لوحات الدمى والرؤوس في ألمانيا، وسكن تحديداً في المنطقة القريبة من جدار برلين الغربية، التي كانت حكومتها في ذلك الحين، تحاول إحاطة الجدار بالفن والفنانين كردٍ إنساني وفنّي على الانقسام السياسي. وهكذا، صار قصّاب باشي، الذي درس الآداب في "جامعة دمشق" لاجئاً ومقاوماً فنياً في الوقت ذاته.

في أعماله الأولى رسم الفنان الراحل الوجوه والشخصيات معبّراً عن عزلتها عن الحياة، ومظهراً مشاعرها المختلطة المعلّقة على تعابيرها وهي تنظر إلى العالم من خلال اللوحة، أو راسماً إياها بوضعيات مختلفة تدلّ على اضطراب علاقتها مع الوجود؛ حزن وحيرة وعدم مبالاة، كما أن العالم في لوحاته ينطلق من داخل الإنسان.

في مرحلة تالية، وفي نهاية الثمانينيات، تفرّد قصّاب باشي بأن جعل الوجه، يأخذ معظم مساحة اللوحة إن لم يكن كلّها، وجوهٌ تحتشد بالأسئلة، بالكلام الذي لم يقل بعد، وجوه توحي بأنها سوف تتحرّك عمّا قليل، لتنطق بما يقلقها، أو تنفجر. رسَم وجهه أيضاً، في عدد كبير من البورتريهات، ولعلّ أفضل تفسير لعمله هذا هو بيت الشعر الذي كتبه على حائط صالة معرضه الذي أقيم في غاليري "صفير زملر" في هامبورغ عام 2014، والبيت لمحيي الدين ابن عربي: "وما الوجه إلا واحد غير أنه/ إذا أنت أعددت المرايا، تعدداً".

في حين غادر قصاب باشي دمشق ذات زمن، بحثاً عن الفن، اختار الروائي عبد الرحمن منيف دمشق، كآخر مدينة يريد الكتابة فيها، وبالفعل، عاش في الشام وتوفي فيها، لكن، ليس هذا فقط ما يربط منيف بقصّاب باشي، بل جمعتهما صداقة حميمة، ورسائل عميقة عن الأدب والفن والحياة تبادلاها طوال سنوات، جُمعت بعد وفاة منيف في كتاب سمي بـ"أدب الصداقة".

تُبيّن الرسائل علاقتهما التي توطدّت من خلال سعي منيف للصعود بالإنسان العربي المأسور بنكساته وقهر أنظمته إلى الحياة والنور، فيما يسعى قصّاب باشي إلى تجاوز نكسات وجوه لوحاته الملطخة بترابها وظلمة أسئلتها إلى إجابات تقود لضوء ما، بعد نكسة حزيران، قال قصّاب باشي إلى منيف في إحدى الرسائل: "المهم هو النور".

استمر قصّاب باشي يرسم معالم الروح من خلال وجوه أصحابها، ويسعى كما يعبّر بفنه ولوحاته، ليكون الفن شجرة جذورها في الأرض، تمتدّ من دمشق إلى برلين وكل العالم، وتنمو تجاه السماء، بلا توقف. معالم أو طبوغرافية الروح التي كان لها تأثيرها في مدارس الرسم الحديثة في ألمانيا وغيرها.

نُظّمت معارض عديدة ضمّت أعماله، في برلين ومدن ألمانية وأوروبية عديدة، كما عُرضت لوحاته في بيروت ودمشق، وطوال نصف قرن، تنقّل قصّاب باشي فيها من الواقعية إلى الانطباعية إلى التجريبية، حتى استطاع وضع بصمته العميقة.

يمكن قراءة بصمته هذه من خلال النظر إلى وجوه لوحاته مرة تلو أخرى، الوجوه التي تحوي العالم، بأسئلته وتناقضاته، وعزلته عن باقي مجاهل الكون، من الظلام إلى النور، جعل من فنّه مادة لمصافحة الحياة والتعرّف إليها، بعد أن شكّل من وجهه ومن باقي الوجوه، خريطة، أو جغرافية، لهذا العالم. هو الذي قال:"أضع قطعة من خيال، على قطعة من قماش".

دلالات
المساهمون