نادراً ما يجري تسليط الضوء على نتاج حلمي سالم (1951 - 2012) النقدي أو تداول أفكاره حول الثقافة والسياسة والشعر، رغم أنها شغلت عدداً غير قليل من مؤلّفاته؛ مثل: "عِم صباحاً أيها الصقر المجنح" و"التصويب على الدماغ" و"الثقافة تحت الحصار" و"هيا إلى الأب". تلك الدراسات تُقدّم خارطةً لمرحلة مليئة بالاختلافات والإرهاصات أفرزت مشاريع شعرية كثيرة، وجماعات أدبية مثل "إضاءة" و"أصوات" اللتين كان شريكاً فيهما.
في ذكرى رحيله الرابعة، لم يذهب المشاركون في الأمسية التي عُقدت في "بيت الشعر" في القاهرة، الجمعة الماضي، إلى أبعد من الحديث الشخصي حول "الشاعر الذي يقاوم ولا يتطرّف في مقاومته، فلا يقصي الآخر انتصاراً لفكرته".
يمكننا أن نقف، في المناسبة، على ناصية فكرة أساسية ميّزت مشروعه في الكتابات النقدية، تتمثّل في رفض الانحصار في الثنائيات؛ ففي كتابه "هيا إلى الأب: مقالات حول القطيعة والإيصال في الشعر"، اتّضح اشتباكه وتحليله لحالة كانت سائدة في مرحلة السبعينيات، وربما ما زالت إلى الآن، وهي ثنائية الحالة "الدنقلية" (نسبة إلى أمل دنقل) والحالة "الأدونيسية" (نسبة إلى أدونيس)، والتى تكشف عن كون تلك الحالتين تحوّلتا إلى حائطين صلبين يجري اعتصار التجارب التى نشأت بينهما، بل واتهام التجارب التي تتأثّر بأي من الحالتين، أو تقترب منهما، بالتقليد الشكلاني الساذج. النتيجة هي أن تلك التجارب حُصرت بين نمطين، وواجهت التضييق تارة، والاستخفاف تارة أخرى.
كان سالم يرفض، أيضاً، مصطلح جيل السبعينيات، فكلمة جيل تفرض بشكل قسري تشابهاً ما، كان يرفضه ويرى ضرورة الحديث عن كل تجربة شعرية كحالة منفردة، بعيداً عن "فخّ الأجيال".
ربما كان يعلم مبكراً خطورة تلك التصنيفات، ليس فقط في الجانب الشعري، بل في جوانب تتعلّق بمفردات العمل الثقافي والسياسي في مصر، ورأى أن الثنائيات الحادّة تهدف، ولو بطريقة غير واعية، إلى تغييب تجارب أخرى، وهو جزء من الانعزال الذي يمارسه الشعراء البارزون. نجد ذلك في تحليلاته لبعض تصريحات أمل دنقل الذي لم ير أية تجارب "تُسمع" من جيل الشباب آنذاك، والذي كان حلمي سالم أحد أصواته؛ حيث اعتبر صاحب "الغرام المسلّح" أن هذا التصريح يعكس "حالة من الانعزال الدنقلي"، ليس فقط عن الشباب، بل عن فهم الواقع الذي تغيّر، وأوصدت فيه دور النشر المصرية أبوابها في وجوه الشعراء الجدد، وهو الزمن الذي وصفه أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه "أحفاد شوقي" بالزمن الميت أو الزمن الخراب الذي وُلد الشعر فيه في سنوات الفجيعة.
لم يكن الخلاف بين سالم ودنقل متعلّقاً بمشروع الأخير الشعري، بل بتنظيراته. وربما كانت هذه المراجعات فعل مقاومة واضحاً للتأطير الذي كان يصدره دنقل لتجارب جيل السبعينيات. لعلّ المقاومة تلك ساهمت في استمرار التجارب التي وُلدت بلا آباء، ليس بسبب "قتل الأب"، بل لأن "الآباء الشعريين" أنفسم تنكّروا لأبنائهم.
ورغم مقاومته النظرة الدنقلية إلى جيل السبعينيات، كان سالم يرى في أن تجربة دنقل الشعرية تميّزت بـ "الاعتداد الرفيع بالشعر كسلاح لا يُساوَم عليه"، مثلما أشار في كتابه "عِم صباحاً أيها الصقر المجنّح"، والذي أهداه إلى دنقل نفسه.
ثمّة، أيضاً، ما يؤكّد رفض صاحب "فقه اللذّة" للحدود التي ترسمها الثنائيات: قضية محاكمته على قصيدة "شرفة ليلى مراد" حيث وجد نفسه، مع مثقّفين آخرين من بينهم نصر حامد أبو زيد وحيدر حيدر، في مواجهة التشدّد الديني. سالم رفض حصر الدفاع عن الإسلام في ثنائية المتديّن المعتدل والمتديّن المتطرّف؛ حيث رأى أن الاعتدال الذي يُنظّر له الكثيرون لا يوجد بالفعل على أرض الواقع، فقال في بحث بعنوان "غزاليون ورشديون"، نشره "مركز القاهرة للدراسات"، إن المتديّن المعتدل هو من رأى في رواية "أولاد حارتنا" ازدراءً للأديان، وتوقّف عند ذلك، والمتديّن المتطرّف هو من طعن نجيب محفوظ في رقبته، والمعتدل هو من رفض أطروحة نصر حامد أبو زيد ورأى فيها إساءة للدين والذات الإلهية، والمتطرّف هو القاضي الذي قام بالتفريق بينه وبين زوجته.
هكذا رفض سالم فكرة الجمع بين طرفي ثنائية ليست لها أسس منطقية ومعياريتها خاطئة، ليدعو إلى البحث خارجها عن طريقة منطقية وموضوعية للتجديد الديني.
انشغاله بالتوثيق كان أحد الجوانب البارزة في إنتاجه؛ ففي كتابه "الثقافة تحت الحصار"، وثّق لوضع عدد من المثقّفين المصريين والعرب، مثل معين بسيسو ومحمود درويش وفريدة النقاش وسلوى بكر وزين العابدين فؤاد وعدلي فخري، خلال حرب لبنان ودخول الإسرائيليين إلى بيروت عام 1982، وإصرارهم على التواجد في المدينة تحت القصف، كما وثّق للكتابات التى تمخّضت عن معايشة الحرب.
كأن هذه الكتابات والدراسات كانت مرآة للمسار الشعري الذي قطعه سالم، وكانت ترافقه فيه دائماً محاولة لمغادرة كل التصنيفات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صعاليك واشتراكيون حالمون
في كتابه "التصويب على الدماغ"، استهلّ حلمي سالم حديثه بتعبيره عن إعجابه بشعر الصعاليك في الجاهلية وصدر العصر الإسلامي، في إشارة إلى انتمائه إلى قيم هؤلاء الشعراء الذين "يرفضون قيم المجتمع السائدة، في ما يشبه حالة الاغتراب الوجودي، ويشبه اليوتوبيا الاشتراكية الحالمة". هذه السمات يمكن استشفافها، ليس في حالة سالم ومشروعه فحسب، بل في عدّة أصوات شعرية تنتمي إلى المرحلة نفسها.