11 نوفمبر 2024
من خالد سعيد إلى شادي حبش: قلة الحيلة
لم تنم مصر حين وقعت جريمة قتل الشاب خالد سعيد، ولم تهدأ إلا حين أطاحت رأس النظام المسؤول عن اغتياله، بثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون ثاني 2011.
بدأت الثورة بالمطلب الواحد: الكرامة الإنسانية، وانطلقت لإسقاط دولة التعذيب ونظام سحق آدمية المصريين بالأحذية والهراوات، والتوحش على البسطاء أمنيًا واقتصاديًا. ولذلك كان الشاب خالد سعيد الذي لفظ أنفاسه على يد اثنين من أفراد الأمن العنوان العريض للثورة، والمحور الذي التفت حوله كل أحلام ومطالب التغيير السياسي، فتحولت الإسكندرية، مدينته، إلى قبلة المعارضين والغاضبين والباحثين عن التغيير، من سياسيين محترفين ومواطنين عاديين.
تحتفظ ذاكرة الإسكندرية بزيارات الرموز السياسية والحزبية، في مناسبات عدة، كلها تتعلق بفاجعة اغتيال خالد سعيد على يد الأمن، بل كان التدافع والتزاحم والتنافس على أشدّه بين قوى المعارضة في ذلك الوقت، بحثًا عن مكان في صدارة صورة الغضب الشعبي التي ارتسمت واتسعت وتطورت حتى أفضت إلى ثورة.
في فاجعة خالد سعيد، حاولت السلطة التفلت من جريمتها باختراع رواية ابتلاع لفافة البانغو لحظة القبض عليه، ما أدّى إلى اختناقه وموته، منهج شديد الوضاعة في التخلص من الجريمة بإضرام النار في سمعة الضحية وتشويه صورته.
عشر سنوات كاملة تفصل تراجيديا مقتل خالد سعيد عن مأساة مصرع المخرج الشاب شادي حبش في السجن .. تغيرت أشياء كثيرة، إلا السلطة بقيت كما هي، لم تتغير أساليبها في الكذب والتلفيق والتشويه، بحيث تقيد الجريمة ضد الضحية، لا ضد الجناة.
في قضية مخرج أغنية بلحة، لا جديد، بانجو خالد سعيد تحول إلى كحول مع شادي حبش، مع إضافة عبارة شديدة الخبث والوضاعة في بيان النيابة العامة، تعزو موته إلى أنه تناول "كمية من الكحول ظهيرة اليوم السابق على وفاته". وتنقل عن سجناء آخرين معه أنهم وجدوا زجاجتين فارغتين من الكحول في سلة المهملات، وأنه استعملهما وحده.
هكذا، إغلاقًا لملف الكارثة، لا تتورّع الرواية الرسمية عن تحويل الضحية متهمًا، يتناول الكحول المخصص لمكافحة فيروس كورونا في ظهيرة أحد أيام شهر رمضان المبارك، فيدخل في نوبة ضحك هستيري ثم يموت من الإعياء.
رواية تتفوق، في قبح صياغتها، على رواية الطب الشرعي عن مقتل خالد سعيد، إذ تلحق بشادي حبش كل الشرور والأخطاء القانونية (الاستيلاء على عبوتي كحول له وحده) والخطايا الأخلاقية (تناول الكحول عمدًا في نهار شهر صيام المسلمين)، ذلك كله، وهو المعتقل السياسي في سجن لا يستطيع أحد أن يوصل حبة دواء لنزيل فيه، إلا بشقّ الأنفس، لكن شادي هذا الوغد الذي يتمتع بقدرات خارقة تمكّن من احتكار كميات الكحول التي تخصصها الحكومة وارفة العطف باذخة الحس الإنساني المرهف، الناسكة المتعبدة في محراب حقوق الإنسان، لضيوفها الأعزاء من المحبوسين الذين تتفانى في راحتهم.
لم يكن منتظرًا من هذه السلطة أن تأتي بروايةٍ أخرى، فالكل يعلم أننا بصدد مخلوط من فساد واستبداد زمن حسني مبارك مضروبًا في عشرين على الأقل، ومن ثم لا مفاجأة على الإطلاق في إخراج هذه الرواية الساقطة الساحقة، قبل أن تسلم جثة الضحية لأهله لدفنها.
أيضًا، قد لا تكون هناك مفاجأة في ردود أفعال الأوساط السياسية والحقوقية والقانونية، العاجزة حد الكساح، لكن الأمر لا يمنع من المقارنة بين حالتي خالد سعيد وشادي حبش، الأول قتله تسلط اثنين من مخبري الأمن، والثاني راح ضحية الانتقام الشخصي من الجالس في قمة هرم السلطة، تغيظًا من أغنية سخرت منه.
رواية تبرير شادي حبش أكثر فجرًا وتوحشًا من رواية إعلان موت خالد سعيد، كما أن الأخير لم يكن سياسيًا أو له نشاط سياسي على أي نحو، ولم يكن مستهدفًا من النظام، بينما خالد سعيد، وكما هو مدرك بالحواس الخمس وبالعقل وبالخيال، تمت تصفيته عبر سلسلة من وسائل البطش المخالفة للقانون، بدءً من الحبس الاحتياطي المتواصل لأكثر من عامين، مرورًا بالحرمان من أبسط حقوق السجين، وليس انتهاء بتلفيق رواية موت تدينه بعين المجتمع.
السؤال هنا: لماذا انتفضت مصر لخالد سعيد ولم تنتفض من أجل شادي حبش؟ حسنًا، سيقال إن القمع أشرس والمجال العام مخنوق ومحترق، وثمن التعبير عن الغضب على الأرض أكثر فداحةً مما يتخيل أحد، لكن أيضًا، وبالنظر إلى ردود أفعال الشخصيات والرموز المهاجرة من الواقع اليومي على الأرض إلى فضاء العالم الافتراضي، تبدو المسألة وكأن الكل متوافق أو متواطئ مع هذه الحالة من التوحش، إلى الحد الذي لا يكلف نفسه معه تسجيل موقف أو إبداء رأي في تغريدة أو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي.
أتحدث هنا تحديدًا عن شخص مثل محمد البرادعي، الذي بنى ثروته في بنك النشاط السياسي والنضال الإنساني من الاشتغال على قضية خالد سعيد، والآن يمرّ أمامه شريط الوقائع المفزعة لاغتيال شادي حبش، فلا ينطق ولا يكتب، متفرغًا للثرثرة في موضوع كورونا والتباعد الاجتماعي والعزل، وكأنه انتقل فجأة من حالة الرمز السياسي إلى وضعية خبير الأوبئة والأمراض المعدية.
صحيح أن قضية اغتيال شادي حبش تأتي والعالم كله يشهد تراجعا في الانشغال بحقوق الإنسان، لكن من قال إن ذلك يبرر الصمت العاجز. .. سيقولون إن الجماهير تعبت ويئست وانسحقت، لكنهم لن يقولوا إنهم مسؤولون عن دفع الجماهير إلى هذه الحالة من الانسحاب من الحياة، حين ضللوها وقادوها تحت سحاباتٍ من أبخرة الكذب والاحتيال كي تصفق للاستبداد وتغني للطغيان، بوصفه الحل والأمل. والنتيجة، أنهم، قبل الجماهير، صاروا أقرب للوصف الذي استخدمه الفيلسوف هيغل وهو يتحدّث عن الاستبداد في الشرق عمومًا، فيقول: "إن لدى الشعب الصيني عن نفسه أسوأ الأفكار، فهو يعتقد أنه لم يخلق إلا ليجرّ عربة الإمبراطور".
أخشى أن يكونوا قد نجحوا في محو النسخة الأصلية من المصريين، واستبدالها بالمنتج الصيني.
بدأت الثورة بالمطلب الواحد: الكرامة الإنسانية، وانطلقت لإسقاط دولة التعذيب ونظام سحق آدمية المصريين بالأحذية والهراوات، والتوحش على البسطاء أمنيًا واقتصاديًا. ولذلك كان الشاب خالد سعيد الذي لفظ أنفاسه على يد اثنين من أفراد الأمن العنوان العريض للثورة، والمحور الذي التفت حوله كل أحلام ومطالب التغيير السياسي، فتحولت الإسكندرية، مدينته، إلى قبلة المعارضين والغاضبين والباحثين عن التغيير، من سياسيين محترفين ومواطنين عاديين.
تحتفظ ذاكرة الإسكندرية بزيارات الرموز السياسية والحزبية، في مناسبات عدة، كلها تتعلق بفاجعة اغتيال خالد سعيد على يد الأمن، بل كان التدافع والتزاحم والتنافس على أشدّه بين قوى المعارضة في ذلك الوقت، بحثًا عن مكان في صدارة صورة الغضب الشعبي التي ارتسمت واتسعت وتطورت حتى أفضت إلى ثورة.
في فاجعة خالد سعيد، حاولت السلطة التفلت من جريمتها باختراع رواية ابتلاع لفافة البانغو لحظة القبض عليه، ما أدّى إلى اختناقه وموته، منهج شديد الوضاعة في التخلص من الجريمة بإضرام النار في سمعة الضحية وتشويه صورته.
عشر سنوات كاملة تفصل تراجيديا مقتل خالد سعيد عن مأساة مصرع المخرج الشاب شادي حبش في السجن .. تغيرت أشياء كثيرة، إلا السلطة بقيت كما هي، لم تتغير أساليبها في الكذب والتلفيق والتشويه، بحيث تقيد الجريمة ضد الضحية، لا ضد الجناة.
في قضية مخرج أغنية بلحة، لا جديد، بانجو خالد سعيد تحول إلى كحول مع شادي حبش، مع إضافة عبارة شديدة الخبث والوضاعة في بيان النيابة العامة، تعزو موته إلى أنه تناول "كمية من الكحول ظهيرة اليوم السابق على وفاته". وتنقل عن سجناء آخرين معه أنهم وجدوا زجاجتين فارغتين من الكحول في سلة المهملات، وأنه استعملهما وحده.
هكذا، إغلاقًا لملف الكارثة، لا تتورّع الرواية الرسمية عن تحويل الضحية متهمًا، يتناول الكحول المخصص لمكافحة فيروس كورونا في ظهيرة أحد أيام شهر رمضان المبارك، فيدخل في نوبة ضحك هستيري ثم يموت من الإعياء.
رواية تتفوق، في قبح صياغتها، على رواية الطب الشرعي عن مقتل خالد سعيد، إذ تلحق بشادي حبش كل الشرور والأخطاء القانونية (الاستيلاء على عبوتي كحول له وحده) والخطايا الأخلاقية (تناول الكحول عمدًا في نهار شهر صيام المسلمين)، ذلك كله، وهو المعتقل السياسي في سجن لا يستطيع أحد أن يوصل حبة دواء لنزيل فيه، إلا بشقّ الأنفس، لكن شادي هذا الوغد الذي يتمتع بقدرات خارقة تمكّن من احتكار كميات الكحول التي تخصصها الحكومة وارفة العطف باذخة الحس الإنساني المرهف، الناسكة المتعبدة في محراب حقوق الإنسان، لضيوفها الأعزاء من المحبوسين الذين تتفانى في راحتهم.
لم يكن منتظرًا من هذه السلطة أن تأتي بروايةٍ أخرى، فالكل يعلم أننا بصدد مخلوط من فساد واستبداد زمن حسني مبارك مضروبًا في عشرين على الأقل، ومن ثم لا مفاجأة على الإطلاق في إخراج هذه الرواية الساقطة الساحقة، قبل أن تسلم جثة الضحية لأهله لدفنها.
أيضًا، قد لا تكون هناك مفاجأة في ردود أفعال الأوساط السياسية والحقوقية والقانونية، العاجزة حد الكساح، لكن الأمر لا يمنع من المقارنة بين حالتي خالد سعيد وشادي حبش، الأول قتله تسلط اثنين من مخبري الأمن، والثاني راح ضحية الانتقام الشخصي من الجالس في قمة هرم السلطة، تغيظًا من أغنية سخرت منه.
رواية تبرير شادي حبش أكثر فجرًا وتوحشًا من رواية إعلان موت خالد سعيد، كما أن الأخير لم يكن سياسيًا أو له نشاط سياسي على أي نحو، ولم يكن مستهدفًا من النظام، بينما خالد سعيد، وكما هو مدرك بالحواس الخمس وبالعقل وبالخيال، تمت تصفيته عبر سلسلة من وسائل البطش المخالفة للقانون، بدءً من الحبس الاحتياطي المتواصل لأكثر من عامين، مرورًا بالحرمان من أبسط حقوق السجين، وليس انتهاء بتلفيق رواية موت تدينه بعين المجتمع.
السؤال هنا: لماذا انتفضت مصر لخالد سعيد ولم تنتفض من أجل شادي حبش؟ حسنًا، سيقال إن القمع أشرس والمجال العام مخنوق ومحترق، وثمن التعبير عن الغضب على الأرض أكثر فداحةً مما يتخيل أحد، لكن أيضًا، وبالنظر إلى ردود أفعال الشخصيات والرموز المهاجرة من الواقع اليومي على الأرض إلى فضاء العالم الافتراضي، تبدو المسألة وكأن الكل متوافق أو متواطئ مع هذه الحالة من التوحش، إلى الحد الذي لا يكلف نفسه معه تسجيل موقف أو إبداء رأي في تغريدة أو منشور على وسائل التواصل الاجتماعي.
أتحدث هنا تحديدًا عن شخص مثل محمد البرادعي، الذي بنى ثروته في بنك النشاط السياسي والنضال الإنساني من الاشتغال على قضية خالد سعيد، والآن يمرّ أمامه شريط الوقائع المفزعة لاغتيال شادي حبش، فلا ينطق ولا يكتب، متفرغًا للثرثرة في موضوع كورونا والتباعد الاجتماعي والعزل، وكأنه انتقل فجأة من حالة الرمز السياسي إلى وضعية خبير الأوبئة والأمراض المعدية.
صحيح أن قضية اغتيال شادي حبش تأتي والعالم كله يشهد تراجعا في الانشغال بحقوق الإنسان، لكن من قال إن ذلك يبرر الصمت العاجز. .. سيقولون إن الجماهير تعبت ويئست وانسحقت، لكنهم لن يقولوا إنهم مسؤولون عن دفع الجماهير إلى هذه الحالة من الانسحاب من الحياة، حين ضللوها وقادوها تحت سحاباتٍ من أبخرة الكذب والاحتيال كي تصفق للاستبداد وتغني للطغيان، بوصفه الحل والأمل. والنتيجة، أنهم، قبل الجماهير، صاروا أقرب للوصف الذي استخدمه الفيلسوف هيغل وهو يتحدّث عن الاستبداد في الشرق عمومًا، فيقول: "إن لدى الشعب الصيني عن نفسه أسوأ الأفكار، فهو يعتقد أنه لم يخلق إلا ليجرّ عربة الإمبراطور".
أخشى أن يكونوا قد نجحوا في محو النسخة الأصلية من المصريين، واستبدالها بالمنتج الصيني.