من حديث الأربعاء (2)

21 ابريل 2018
+ الخط -
عقَّب أخيرًا الدكتور طه حسين على مقال الأستاذ الكبير رفيق العظم بأن رده لن يفيد شيئًا في محاولة تقريب وجهات النظر، لأن الخلاف بينهما جوهري جدًّا، لأنهم يسبغون على التاريخ الإسلامي وأشخاصه الذين صنعوه من القداسة والتبجيل، ما يحُول بينه وبين النظر فيه نظرًا يعتمد على النقد والبحث العلمي، ويرى أن هذه النظرة المقدسة وهذا المذهب -مذهب تقديس الأشخاص- طور طبيعي من أدوار التاريخ لا بد أن يُمر به، بل طور من أطوار الحياة العقلية والسياسية للناس لا بد أن يمروا به، ذلك أن الناس في مراحل ضعف وخمول أمتهم يضطرون للرجوع إلى ماضيهم الغابر، يركنون إليه ويأنسون به، وبالتالي يسبغون عليه هذه القداسة وهذا التبجيل، ومن ثَمَّ فإن طه حسين اتهم منهج الأستاذ رفيق العظم بأنه يركن أول ما يركن إلى التقديس والتبجيل، وكان من المفترض أن يركن إلى التحقيق والبحث العلمي.

لم ينكر الدكتور طه حسين أن كثيرًا من أخبار رجال التاريخ ليست صحيحة، وأنه من المؤكد أن حياة المأمون والرشيد وأبي نواس بعد كل هذه الروايات وهذه الأخبار لم تكن كلها صلاحًا وتقوى، ونسكًا وعبادة، وتلك طبيعة الناس في كل أمة من الأمم، وأن هذا المجون والشك كان طبيعيا جدا لأمة تنتقل من طور البداوة إلى طور الحضارة، وتمتزج بالأمم والثقافات الأخرى، وأن هذا الانتقال وهذا الامتزاج لم يكن ليبعدها عن هذا المجون وهذا الشك.

سيرفض الأصوليون ادعاء طه حسين بأن عصر الرشيد والمأمون كان مجونا ولهوا، وسيرفضون أيضا ادعاء طه حسين بأنهم ينظرون للتاريخ نظرة التبجيل والتقديس المنافية للبحث العلمي، لكننا على كل حال لا يمكننا أن نرفض الفكرة التي ذهب إليها الدكتور طه حسين بشكلها ومضمونها، ومن ثَمَّ لا يمكننا أن نرفض كل أفكار الرجل التي سارت على هذا النمط الفكري الأدبية منها والتاريخية.

إن طه حسين كان مسؤولًا عن ثقافة مجتمعه، وكان حريصًا على أدب شباب الجيل وأخلاقه، لكنه في الوقت نفسه يريد منهم ألا يدعوا شيئا إلا وتعلموه ووعوا مراميه، فلا يأخذون الفقه ويتركون الشعر بكل ما فيه من مجون ولهو وعبادة، يريد منهم ألا يرددوا علم الكلام ويتجنبوا اللذة ومُتع الحياة، لا يريد منهم أن يتعلموا أن تاريخ أسلافهم كله فقه وتفسير وحديث؛ بل كان فيه قسط كبير من اللهو والشك والمجون، يختلف بالطبع حسب الزمان والمكان.

أظن أن هذا الرأي من آراء الدكتور طه حسين التي لا تُرضي كثيرًا من أعلام الأصوليين على اختلاف ثقافاتهم وطبائعهم، وكانت على كل حال اجتهادات عقلية لها من المكانة والرقي ما ليس لآراء غيره من محبيه وكارهيه.
دلالات
145518C6-AF6D-4048-BEAD-2BC13B19BC51
محمود محمد جميل

قارئ للفلسفة والأدب، وكاتب مهتم بالتاريخ وخاصة الإسلامى منه لما يحمله من فلسفة وعلوم... حاصل على بكالوريوس في العلوم.

مدونات أخرى