تُمثل الاجتماعات التي تستضيفها العاصمة الكازاخية أستانة اليوم الإثنين وغداً الثلاثاء، بين النظام والمعارضة السورية، محطة مهمة جديدة في مسار القضية السورية، إذ تأتي بعد جمود سياسي استمر لأشهر، منذ تعثر "جنيف 3" (إبريل/نيسان الماضي)، فيما نجحت روسيا، بجرّ مفاوضات سورية موسعة، للمرة الأولى، إلى مجالها الجيواستراتيجي بعد التفاهم الأخير مع تركيا، منتشية من تغييرها موازين القوى على الأرض في سورية. وتجسد ظروف وزمان ومكان الاجتماعات الواقع الذي وصل إليه الوضع السوري، إذ تُعتبر انعكاساً واضحاً لتحولات كثيرة، شهدتها القضية السورية خلال أكثر من خمس سنوات، وسط تراجعات لقوى غربية عن دعم المعارضة السورية، مع تقلص مساحة تحركات قوى إقليمية، تماشياً مع ما فرضته ظروف الميدان السوري، والتحولات الدولية في هذه القضية.
مسارٌ سياسيٌ شائكٌ وبالغ التعقيد مرت به القضية السورية، منذ أول اتفاق دولي فعلي، تم التوصل إليه نهاية يونيو/حزيران 2012، وفق ما عُرف ببيان "جنيف 1"، والذي صدر عن "مجموعة العمل لأجل سورية"، حين كان كوفي عنان هو المبعوث المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سورية، إذ حدد البيان ستة بنود للحل السياسي، أبرزها "إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية"، على أن "تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية، ويُمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة".
وبعد أقل من خمسة أسابيع، استقال عنان من مهمته، لعدم حصول خطته للسلام على "الدعم الكافي" من المجتمع الدولي، مع "تصاعد العسكرة على الأرض وانعدام الإجماع في مجلس الأمن الدولي"، ليخلفه في المنصب الأخضر الإبراهيمي، الذي جال في عواصم القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في سورية، بُغية مقاربة خطة جديدة لحل سياسي. ولم تبصر تحركات الإبراهيمي النور، مع تعثر التوصل إلى حل قبل سنتين تماماً من الآن في "جنيف 2" (22 يناير/كانون الثاني 2014)، وهي أول مفاوضات مباشرة، أفشلها النظام، بتمييعه لموضوع نقاش "الحل السياسي" في المؤتمر، مشترطاً تقديم "مكافحة الإرهاب" كأولوية قبل أي حل. وفيما تجلت عدة فروق بين المؤتمرين، أبرزها أن "جنيف 1"، جرت اجتماعاته وخرج بيانه من دون حضور النظام والمعارضة، يُعتبر "جنيف 2"، أول مفاوضات، تواجه فيها وفدا المعارضة والنظام ضمن قاعة واحدة، إلا أن كلاهما عُقد برعاية أممية، وبتفاهم روسي- أميركي، وسط دعم دولي واسع، تجلى في "جنيف 2"، بحضور وزراء خارجية أهم الدول الفاعلة في سورية وممثلين عن أكثر من أربعين دولة، وهو الرقم الذي انحسر كثيراً في "جنيف 3" (إبريل/نيسان 2016) الذي كان أول مؤتمر دولي للبحث عن حل سياسي، في أعقاب التدخل الروسي في سورية، نهاية سبتمبر/أيلول سنة 2015.
وما بين "جنيف 2 و3" تغيرت مواقف كثيرة وتبدلت ظروفٌ عديدة، أبرزها على الإطلاق، بدء روسيا باستقدام قوات عسكرية وطائرات حربية إلى سورية، منذ سبتمبر 2015، وهي السنة التي سجلت المعارضة السورية، منذ بدايتها، تقدماً ميدانياً كبيراً، إن كان في درعا جنوبي البلاد، أو في إدلب في شمالها، لتنطلق الطائرات الروسية بشن غاراتٍ على مناطق سيطرة المعارضة السورية، بالتزامن مع شن قوات النظام ومليشياته لهجماتٍ على مناطق المعارضة في ريفي حماة واللاذقية الشماليين، وريفي حلب الجنوبي والشمالي، في الربع الأخير من تلك السنة، ولتبقى المناطق الخاضعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الذي تعاظم نفوذه في سورية خلال 2014 و2015، بمنأى عن الاستهداف المؤثر لغارات روسيا، التي قالت إنها أتت إلى سورية لـ"محاربة الإرهاب". ومع بدء الغارات الروسية في سورية، وفيما سُجلت تراجعات للقوى الغربية عن دعم المعارضة السورية، تداعت أبرز القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، لعقد اجتماعات وزارية في العاصمة النمساوية، إذ برز في بيان "فيينا 1" الصادر نهاية أكتوبر/تشرين الأول، للمرة الأولى، استبدال تشكيل "هيئة حكم انتقالية"، كأهم بنود الحل السياسي، بـ"تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية".
وأتى بيان "فيينا 2" الصادر عن أعضاء المجموعة الدولية لدعم سورية منتصف نوفمبر/تشرين الأول 2015، ليؤكد ضرورة أن تستند العملية الانتقالية في سورية على بيان "جنيف1" وبيان "فيينا 1"، من خلال الإشارة إلى دعم الأعضاء لـ"ما ورد في بيان جنيف 2012"، ودعوتهم إلى "إطلاق عملية سياسية بقيادة سورية، من شأنها، في غضون ستة أشهر، إقامة حكم ذي مصداقية وشامل وغير طائفي، ووضع جدول زمني لوضع صياغة جديدة للدستور، وعقد انتخابات حرة ونزيهة وفقاً للدستور الجديد في غضون 18 شهراً"، على أن تكون "تحت إشراف الأمم المتحدة". وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول 2016، وانطلاقاً من بياني فيينا 1 و2، صدر قرار مجلس الأمن الدولي 2254، الذي دعا خلاله الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، النظام والمعارضة للبدء على وجه السرعة، بمفاوضات الانتقال السياسي، تحت إشراف الأمم المتحدة، لتشكيل "هيئة حكم ذات مصداقية، وتشمل الجميع وغير طائفية"، واعتماد مسار صياغة دستور جديد في غضون ستة أشهر، وإجراء انتخابات حرة على أساس الدستور الجديد، خلال 18 شهراً بإشراف أممي، ولتحمل صياغة القرار، مُخرجاتٍ تم استقاؤها من بياني فيينا 1و2، وكذلك "جنيف 1"، إذ إنه لم يتحدث عن "هيئة حكم انتقالية" ولا عن "حكومة ذات مصداقية" بل عن "هيئة حكم ذات مصداقية".
وبالمحصلة، فإن "جنيف 3"، وعلى اختلاف تفسيرات القرار 2254، تعثر بعد تعنت النظام وداعميه بتنفيذ البنود الإنسانية في القرار الدولي، مع إصرار المعارضة حينها على أن استكمال المفاوضات، لا يمكن أن يتم، ما لم يرضخ النظام للقرارات الدولية، ويوقف قصف المناطق المدنية، ويسمح بإدخال المساعدات الإغاثية للمناطق المحاصرة، لتعود لاحقاً المعارك إلى الميدان. وقد مثلت خسارة المعارضة السورية لشرقي مدينة حلب، أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، انعطافة مهمة استثمرتها موسكو بعد تفاهمات مع تركيا، لتدعو إلى اجتماعات أستانة على ضوء هذا الواقع الميداني الجديد، والذي كان يتزامن كذلك، مع "تسويات" منحت النظام أريحية بريف دمشق، بعد خروج المعارضة من عدة مناطق هناك خلال السنة الماضية، أبرزها داريا، ومعضمية الشام، وقدسيا، والهامة، والتل. هذه العوامل مجتمعة، وأبرزها خسارة المعارضة السيطرة على حلب، أدت الدور الأبرز، في قبول المعارضة المشاركة في اجتماعات أستانة، بعدما أصبحت أمام واقع ميداني ليس في صالحها، مع تغييرات متباينة في مواقف دول داعمة، لكل منها ظروفها الخاصة التي دفعتها لقبول الواقع في أستانة.
فتركيا المُثقلة بأعبائها الداخلية، وهي التي شهدت محاولة انقلابية منتصف يوليو/تموز الماضي، تعمل على تحصين أمنها القومي بالدرجة الأولى. وقد استطاعت أن تحقق عبر "درع الفرات"، هدف إنشاء منطقة "خالية من الإرهاب" داخل الأراضي السورية المتاخمة لحدودها. كما يبدو أن أنقرة، التي كانت قد دعت الولايات المتحدة مراراً لوقف دعمها للقوى الكردية في سورية، قرأت ضعف وتراجع الموقف الغربي، بشأن دعم المعارضة السورية، واعتماد القوى الكردية كحليف أساسي في مواجهة "داعش"، كابتزاز لها، على اعتبار أن أنقرة، ترى نجاح القوى الكردية بتشكيل كيان مستقل على حدودها، خطراً يهدد أمنها القومي، وعليه فإنها رفضت بشكل قاطع حضور ممثلين عن "قوات سورية الديمقراطية" إلى اجتماعات أستانة، واستبعدت بالتالي أي حضور سياسي لهم في هذه الاجتماعات. وفيما توجهت أنظار الدول الغربية الداعمة للمعارضة، نحو ملفات أخرى تبدو أكثر إلحاحاً، خصوصاً ما يتعلق بـ"خطر الإرهاب"، فإن الدول العربية الداعمة للمعارضة، وأبرزها السعودية وقطر، وجدت أنه ليس بالإمكان، مجابهة التيار الدولي السائد حالياً، وهي وإن لم تدعم اجتماعات أستانة بقوة، لكنها في الوقت ذاته، لم تُبد معارضة جادة، في عقد هذه الاجتماعات، التي ستتبعها محادثات رسمية برعاية أممية في الثامن من الشهر المقبل في مدينة جنيف السويسرية.