من تركيا إلى الأسواق الناشئة والنامية

11 سبتمبر 2018
تدابير الحكومة التركية أوقفت تراجع الليرة (Getty)
+ الخط -
مع انتشار فكرة أن المقدمات المتطابقة تؤدي في أفضل الحالات إلى نتائج متشابهة، بات العديد من بلدان الأسواق الناشئة والنامية يخشى انتقال عدوى الليرة التركية، التي فقدت حتى الآن أكثر من 40% من قيمتها منذ بداية العام الحالي، وذلك على الرغم من الارتداد القوي قبل أسبوعين، إثر إجراءات حاسمة من الحكومة التركية ودعم قوي من قطر ثم الصين وألمانيا وفرنسا وبعض البلدان الأوروبية الأخرى.

ورغم تأكيد الحكومة التركية على أن الأزمة نتجت عن تآمر بعض الدول على أنقرة، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية وبعض الجيران الذين لم تسمهم، فمن الواضح أن مضاعفة التعرفات على واردات أميركا من تركيا من الصلب والألمنيوم، وفرض عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، ما كانا ليحدثا كل ذلك الأثر لو لم يكن الاقتصاد التركي يعاني من ضغوط سببت ضعف العملة منذ بداية العام.

وفي تقرير لصندوق النقد الدولي صدر قبل أربعة أشهر، رصد الصندوق علامات إفراط في نشاط الاقتصاد Overheating، وارتفاع في معدلات التضخم فوق المستوى المستهدف، وزيادة عجز الميزان التجاري، بالإضافة إلى زيادة المعروض في قطاع المباني والإنشاءات رغم انحسار الطلب إلى حدٍ كبير، وأخيراً تضخم عجز الموازنة.
وأرجع الصندوق كل ذلك إلى توسع الحكومة في تسهيل حصول الشركات التركية على كميات ضخمة من القروض، وخاصة بالعملة الأجنبية منخفضة الكلفة، في محاولتها لدفع الاقتصاد إلى أقصى حدوده بعد ركود الأزمة المالية العالمية.

لكن المؤكد أن توجهات الحكومة التركية كانت مطابقة لتوجهات معظم الحكومات في الأسواق الناشئة والنامية، حيث حاولت الحكومات في تلك الأسواق، خلال العقد الأخير، استغلال مستويات معدلات الفائدة المنخفضة على الدولار الأميركي، لتحقيق أقصى ما يمكن من معدلات نمو، وكانت الأمور تسير بالفعل على ما يرام.

وعلى مدار الأشهر الثلاثين الأخيرة، ومع ارتفاع أسعار الوقود والطاقة عالمياً، وارتفاع معدلات الفائدة على الدولار، بالاضافة إلى وجود توقعات شبه مؤكدة بإقدام بنك الاحتياط الفيدرالي (المركزي الأميركي) على إجراء رفعين جديدين لمعدلات الفائدة قبل نهاية العام الحالي، وثلاثة رفعات على الأقل خلال العام القادم، بدأ الكثير من المستثمرين الأجانب يفضلون الخروج من الأسواق الناشئة والنامية والانتقال إلى السوق الأميركية منخفضة المخاطر، فبدأت عملات معظم تلك الدول تعاني أمام الدولار.

وفي حين أن الأضواء مركزة بصورة كبيرة على الأزمة التركية، إلا أن العديد من تلك الاقتصادات سارت على الطريق نفسه، بدايةً من التوسع في الاقتراض، ومروراً بالتضرر في معظم الأحيان من ارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات الفائدة على الدولار، وحتى ارتفاع معدلات التضخم بعد حدوث انخفاضات كبيرة في قيم عملاتها.
وبنهاية تعاملات الجمعة الماضي، فقد البيزو الأرجنتيني أكثر من 50% من قيمته منذ بداية العام، وخسر راند جنوب أفريقيا 19% من قيمته، وتراجع الريال البرازيلي 18%، وهبط الروبل الروسي 16%، وتراجعت الروبية الهندية 9%، كما فقد اليوان الصيني 6% من قيمته، بينما اختفت تقريباً عملة فنزويلا.

وفي مذكرة حديثة لمعهد التمويل الدولي، أشار المعهد إلى أن العديد من الأسواق الناشئة والنامية يتعرض لضغوط من عدة صدمات محتملة، منها ارتفاع معدلات الفائدة في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تسرب التأثيرات السلبية للحروب التجارية إليها، حتى لو لم تكن تلك الدول خاضعة لتعرفات إضافية من أي دولة، حيث عرضَ تعقدُ سلاسل التوريدات في منظومة التجارة العالمية في العقود الأخيرة العديد من الدول للمخاطر التجارية التي تتعرض لها الدول مصنعة المنتج النهائي.

وذكر المعهد عدة دول معرضة لتلك المخاطر، كالأرجنتين ولبنان ومصر وكولومبيا وأندونيسيا وجنوب أفريقيا، وكلها من الدول التي شهدت تدفقات كبيرة من الاستثمارات الأجنبية خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يعرضها حالياً لمخاطر خروج تلك الاستثمارات ويضغط على عملاتها بصورة كبيرة.

وألقت عدة دراسات اللوم في ما يحدث من اضطرابات اقتصادية في تلك الدول على السياسات الأميركية الأخيرة، وخاصةً ما يرتبط منها بفرض تعرفات تجارية وقيود أخرى على الواردات الأميركية، حتى أن ستيفاني سيجال، وهي من أهم الباحثات المتخصصات في الاقتصاد السياسي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، أكدت أن الإدارات الأميركية السابقة أدركت أهمية النمو العالمي لاقتصاد أميركي قوي، فعملت على تخفيف تلك الصدمات على البلدان الأخرى.

ورأت سيجال أن الإدارة الحالية تبدو أقل اهتماماً باحتمالات امتداد الأزمة التركية خارج حدود تركيا، وقالت إن السياسة الاقتصادية الدولية للولايات المتحدة تحت إدارة دونالد ترامب تتعمد تحقيق أقصى قدر من الفائدة والنفوذ على حساب نقاط الضعف في اقتصادات الدول الأخرى.

إذاً سياسات ترامب تعمق أزمات الأسواق الناشئة والنامية، وبعض تلك الأسواق بدأت بالفعل في المعاناة، وربما تنجح تركيا في الإفلات من الفخ الأميركي، إلا أنه من المهم أن ندرك أن ليس كل الدول تركيا، وأن هناك بعض الدول التي تقل إمكاناتها الاقتصادية بمراحل عن تركيا، ولا يوجد ما يشجع الدول الأوروبية أو قطر أو الصين، أو غيرها من الدول، على التدخل لتقديم الدعم لها، اللهم إلا بعض أصحاب المصالح، وهو ما لا نضمن توفره وقتها حتى يمكن الاعتماد عليهم.
الأمر إذاً يقتضي مراجعة السياسات التي تعتمد على الاستثمار الأجنبي باعتباره المصدر الأساسي للعملة الأجنبية، والبدء في اتخاذ خطوات مشابهة لتلك التي لجأت إليها الحكومة التركية، وأهمها الحد من الواردات والتوجه نحو التصنيع المحلي لكل ما يمكن تصنيعه منها، من أجل وضع حد لتسرب العملة الأجنبية، حتى لو لم تكن هناك بوادر لذلك، فليس من الحكمة تأجيل شراء مطافئ الحريق لحين اندلاعه، ومن المؤكد أن افتراض دوام "التحالف والدعم" بين الدول يعد من أكثر الافتراضات سذاجة في وقتنا الحالي.
المساهمون