من النكبة إلى الكارثة

15 مايو 2016
+ الخط -
تصادف اليوم الذكرى 68 لنكبة فلسطين عام 1948، بإقامة الصهاينة دولتهم إسرائيل على الأرض الفلسطينية، واقتلاع شعب هذه الأرض منها، وتهجير أكثر من نصفه إلى المنافي العربية، وتدمير تراثه ومؤسساته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، واستقر أكثر من تسعين ألفاً منهم في سورية، في مخيمات أقامتها وكالة الغوث الدولية التابعة للأمم المتحدة في معظم المدن السورية، وأطلق عليها "مخيمات اللاجئين الفلسطينية"، بلغ عدد سكانها حتى عام 2011 حوالى 580000 لاجئ فلسطيني، بحسب إحصائيات رسمية. وقد تعاقبت على هذه المخيمات منذ قيامها بُعيد العام 1948 حتى منتصف مارس/ آذار من عام 2011، الذي شهد قيام الثورة السورية ثلاثة أجيالٍ، تناقلت فيها ذكرى النكبة والمآسي التي تعرض لها الشعب الفلسطيني بسببها، ما عزّز لديه الحلم بما عرف "حق العودة " الذي مثلته منظمة التحرير الفلسطينية عبر نضالها الطويل، وما تعرّضت له من انتكاساتٍ انعكست على تطور مفهوم النكبة، أدى إلى اختلاف مفهومها في الذاكرة الفلسطينية.
تعرّض مفهوم النكبة لتطور جذري، بعد المأساة الكبيرة التي حلت بالمخيمات الفلسطينية، بعد قيام النظام السوري بحربه الهمجية على شعبه الثائر المطالب بحريته وكرامته، امتدّت تلك الحرب، لتطاول الشعب الفلسطيني في مخيماته، بسب وقوف معظمه مع مطالب الشعب السوري المحقة بالحرية والعدالة، ولم تعد النكبة الحدث الأهم في ذاكرة سكان المخيمات الفلسطينيين في سورية، بل أصبح ما هو أهم بكثير، وهي الكارثة التي حلت بهم، والمستمرة منذ نحو ست سنوات، يعانون خلالها الويلات.
تمدّدت حرب النظام على شعبه في السنة الثانية للثورة، لتشمل معظم الأراضي السورية ومنها المخيمات الفلسطينية، وازدادت وحشيتها وراح النظام يدكّ مخيم اليرموك بالصواريخ وقذائف الهاون من العيار الثقيل، بسبب احتضانه النازحين الفارّين من مناطق الصراع. وزرع المسلحين فيه (شبيحة أحمد جبريل) بدعوى حماية المخيم من المعارضة المسلحة، الأمر الذي أدى إلى استفزازها، واشتبكت معهم، فقصفه النظام بطائرات الميغ، وارتكب المجازر فيه بحق المواطنين الأبرياء، وكان من أهمها مجزرة جامع عبد القادر الحسيني، التي راح نتيجتها عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين العزل، وبعد انسحاب عناصر أحمد جبريل من المخيم، دخلت بعض عناصر المعارضة المسلحة إليه، واستتبع النظام ذلك بالقصف طوال ليلة 16 كانون الأول بكل أنواع القذائف والصواريخ، الأمر الذي دفع عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين من سكان المخيم، جلّهم من الشيوخ والنساء والأطفال في صباح اليوم التالي، إلى ترك بيوتهم إلى هجيج آخر، يشابه التشرّد الذي عرفه الأباء والأجداد أيام النكبة باتجاه المجهول. وأطبق النظام بعد ذلك بحوالى الشهرين حصاراً خانقاً على من تبقى منهم في المخيم، ومنع الدخول والخروج إليه، ولم يعد يسمح بوصول المواد الغذائية والأدوية والماء إليهم، بالإضافة إلى قطع التيار الكهربائي عنهم، وما زالت هذه الحال قائمة حتى أيامنا هذه. وما حصل في مخيم اليرموك حصل نفسه في معظم المخيمات الأخرى، أسوةً بكل المناطق المعارضة في سورية.
بدأت تتشكل في مخيلة الفلسطينيين المشردين من بيوتهم في "اليرموك"، وغيره من المخيمات
في سورية، ملامح نكبة جديدة، على غرار نكبتهم التي لا تزال عالقة بذاكراتهم جميعاً، لكنها، هذه المرة، أشد كارثية، بحسب ما رواه معظم كبار السن من الشعب الفلسطيني، "ما حدث لفلسطينيي سورية أشد هولاً مما حدث أيام نكبة فلسطين 48". وقد أفادت معظم التقارير الحقوقية الصادرة عن المنظمات الإنسانية، ومنها التي صدرت عن وكالة الغوث للاجئين الفسطينيين، والمتابعة للشأن الفلسطيني منذ 1948، عن بشاعة المشهد، وقبح الكارثة الجديدة التي يتعرّض لها اللاجئون الفلسطينيون في سورية، أنه، منذ مارس/ آذار عام 2011 حتى نهاية مارس/ آذار 2016، سقط ضحية الحرب السورية من اللاجئين الفلسطينيين السوريين أكثر من 3191 ضحية، قضى منهم 2643 نتيجة القصف والاشتباكات، قبل حصار المخيم وبعده.
وهناك من تعرّضوا لأبشع حالات الموت تحت التعذيب، وقد وثقت مجموعة العمل الفلسطينني حوالى 348 حالة قضوا تحت التعذيب في المعتقلات، من أصل 1064 معتقلاً فلسطينياً. ولكن، تؤكد المجموعة أن العدد الحقيقي لضحايا التعذيب يفوق هذا العدد بأضعاف، بسبب تكتم الأفرع الأمنية من جهة، ومن جهة أخرى، إحجام عائلات عديدة الإفصاح عن أبنائها المغيبين في السجون، خوفاً من الملاحقة أو تعرض أبنائها إلى الاعتقال، ومات أكثر من 200 شخص جوعاً تحت الحصار، يُضاف إلى هذه الضحايا أكثر من 50 شخصاً من نشطاء الإغاثة السلميين الذين استشهدوا اغتيالاً برصاص عناصر مجهولة الهوية. وقد وثقت تقارير صادرة عن منظمات حقوق الإنسان غرق مئات من الفلسطينيين في البحر في أثناء محاولاتهم الوصول إلى أوروبا بما عرف بـ "قوارب الموت".
وفي تعدادٍ للاجئين الفلسطينيين السوريين، أجرته وكالة الغوث، في مارس/ آذار من عام 2016، تبين أنه تشتت من المخيمات الفلسطينية في سورية إلى دول العالم الأعداد التالية: لبنان 42500، الأردن 15500، مصر 6000، غزة 1000، تركيا 8000، أوروبا 71800.
يمكن القول إنه، مع هذه الأرقام الكارثية التي توضح تعرّض الفلسطينيين السوريين لمأساة نكبة أخرى، كان وقعها عليهم أشد بشاعةً من الأولى، بات فيها الفلسطيني السوري أمام تراجيديا تستمر أحداثها الدموية، منذ منتصف القرن الماضي حتى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، بدأها محتلٌ غاصب، ويكمل فصولها مستبدٌّ طاغٍ، جعلت حلم هذا الفلسطيني، المقيم في وجدانه، بحق العودة إلى وطنه يصير حلماً مركباً، يقوم على الخلاص من الاستبداد، لكي يمهد الطريق لتحقيق حلمه التاريخي.

192E063C-DF9D-4533-9D3D-62B7977B9210
خالد أبو عيسى

كاتب فلسطيني من مخيم اليرموك في دمشق مقيم في فرنسا، ماجستير علوم اجتماعية.