من أجل عيني لوسي

12 نوفمبر 2018

(مهند عرابي)

+ الخط -
كان رئيس كينيا الحالي، أوهورو كينياتا، أول رئيس دولةٍ عامل، يمثل أمام المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة تدبير جرائم إبادة جماعية، قتل فيها ألف ومائتا شخص في أعقاب الانتخابات التي أجريت عام 2007 في كينيا. نفى كينياتا، وبشكل قاطع، التهم المنسوبة إليه جملا وتفصيلا، وأصر على ضرورة إسقاط القضية. وبرّأته المحكمة فيما بعد، بسبب نقص الأدلة على ضوء انسحاب شهود عديدين، خوفا على حياتهم. ويبدو أن الرئيس الكيني، وهو الزعيم السياسي المنحدر من عائلة سياسية عريقة، وتقلد مناصب عديدة، قبل توليه الرئاسة في بلدٍ شهد كثيرا من العنف والتناحر، معتاد على النفي الشديد إزاء كل ورطةٍ يقع فيها. وقد لجأ إلى آلية النفي نفسها أخيرا في مشهد مضحك، لا يخلو من طرافة، لم يحدُث مثله في تاريخ السياسة. على مرأى العالم، حين دعا إلى مؤتمر صحافي، حضره صحافيون محليون وأجانب، كانت الغاية الوحيدة من عقده نفي ما تناقلته وسائل إعلام بصورة كثيفة متكرّرة عن اقترانه بزوجةٍ ثانية.
وفي جوٍّ مشحونٍ بالتوتر، وبعد الترحيب بالحضور، قدّم الرئيس زوجته السيدة الأولى، لوسي التي كانت تقف بالقرب منه ساخطةً غاضبة، ترمق الحضور بتوعّد، وهي تشرف على خطاب النفي المقدّم من الرئيس. وتقاطعه بين حين وآخر، موجهةً كلامها إلى الصحافيين، وتقرّعهم قائلة: اسألوا الآن، أو لا تسألوا بالمرّة الآن. وهنا فقط تستمعون إلى الحقيقة كاملة. .. وهو يؤكّد، مثل أي متهم يائسٍ من رحمة المحكمة: عليكم أن تصدّقوني، أنتم تعرفون، وأنا أعرف، وكل شخص في كينيا يعرف أني متزوج، ولي زوجة واحدة حبيبة هي لوسي، لكن الصحافة تواصل نشر الإشاعات المغرضة أنني متزوج من أخريات. لذلك أؤكد لكم من جديد أن لدي زوجة واحدة فقط، هي لوسي التي تقف أمامكم. وحين سأل أحد الصحافيين عن سبب انتشار هذه الإشاعات ومن وراءها. رد الرئيس بحزنٍ إنه لا يعرف، ولذلك يشعر بالألم.
ومن تأمل لغة الجسد للعائلة الرئاسية، يمكن القول إن الرئيس المسكين طبق مقولة "كاد المريب أن يقول خذوني"، وهو يتحاشى النظر في وجه لوسي الناقمة، وهي توزّع نظرات الغضب والحنق على الحضور ما يشي بمقدار خشيته ورعبه منها. ولعل حكايته الشهيرة في مواجهة اتهاماتٍ بالإبادة الجماعية أمام المحكمة الجنائية الدولية كانت أقل وطأةً من هذا الموقف العصيب الذي يجد فيه أزواج لعوبون أنفسهم فيه لحظة الانكشاف المذلّة. ويبدو واضحا أنه قد أجبر على عقد هذا المؤتمر الصحافي الغريب، مرضاة لعيني لوسي. لا يمكن الجزم، بطبيعة الحال، إذا كان يتصرّف هنا زوجا عاديا، يدافع عن نفسه من اتهامٍ باطل، ويسعى إلى طمأنة زوجته الحبيبة، أم أن للسيدة نفوذا سياسيا أو قبليا، من شأنه إطاحة الرئيس، فيما لو لم يمتثل، ويدفع ببطلان تلك التهم علانية. ويكذّبها بكل إصرار، ويدين مروّجيها الذين تسببوا في إزعاج السيدة لوسي كثيرا، كما يتضح جليا في الفيديو المبثوث على أوسع نطاق.
لم ترد بعد أخبار إضافية عن حالة لوسي النفسية عقب المؤتمر الصحافي، فيما إذا اطمأن قلبها واستردّت كرامتها الجريحة. أيا كان الأمر، السؤال: إلى أي حد قد تأخذنا مشاعر الغيرة والتملك، في سياق علاقتنا الإنسانية، حين يغيب العقل والمنطق، ونتصرّف بأنانية مطلقة، غير عابئين بالعواقب التي من شأنها إظهارنا أمام الآخرين منزوعي الثقة مهزوزين، مرتبكين مشغولين بإلحاق الأذى بأنفسنا وبالآخرين؟. ولعل تصرّف لوسي الأخرق الأهوج دليل كافٍ على قدرة الذين يعانون من مرض الغيرة المقيت على جعل أنفسهم، في أحيان كثيرة، أضحوكةً ومثارا للسخرية والتندّر.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.