"بنات ألفة"... قصّة القمع والاستلاب

19 اغسطس 2024
+ الخط -

قالت المُخرِجةُ التونسيةُ كوثر بن هنيّة أنّ فيلمها "بنات ألفة" (2023) لا يُصنَّف دراما وثائقية، ذلك أنّ أدوارالمُمثّلات والمُمثّلين المُحترفين كانت محدودةً قياساً إلى المساحة الواسعة التي خُصّصت للشخصيات الحقيقية لسرد تفاصيل هذه القصة الواقعية الحزينة، التي جرت فصولها في أحد أحياءِ تونس الفقيرة، غير أنّ من السهل الاختلاف مع المُخرِجةِ المُبدعةِ واعتبار هذا العمل تحفةً فنّيةً وتجسيداً درامياً مكتملَ العناصر، مع الإقرار بأنّ التقنيات التي استخدمتها في الإخراج مختلفة، وهي أقرب إلى تقنيات برامجَ تلفزيون الواقع الممزوجةِ بفكرةِ ورشات العمل، إذ تجرى طوال الفيلم نقاشاتٌ حيّةٌ بين مُخرِجة العمل وفريق التمثيل، وفي مقدمته المُبدعة هند صبري، والشخصيات الحقيقية اللواتي أعدن ببراعةٍ تمثيل مشاهدَ موجعةٍ قاسيةٍ صادمةٍ عشنها، وما زلن يعانين من تبعاتها، وهنَّ الصغيرات اللواتي اختبرن صعوبةَ الحياةِ والمعاملةَ الصارمةَ من والدتهن ألفة، المرأة التونسية الفقيرة المُعدَمَة، قويّة الشخصية، شديدة الكبرياء، التي كانت تعمل خادمةً في البيوت، وقد أنجبت أربعَ بناتٍ من زوج فاشلٍ تخلّى عن أُسرته، وترك بناته الأربع لمصيرهن، ما جعل الأمَّ تبالغ في حماية بناتها، وتتشدَّد في تربيتهن، ما دفع ابنتيها الأكبر سنَّاً إلى الهروب والانضمام إلى تنظيم داعش، رغبةً في الخلاص من قسوة والدتهن وتعسّفها، فتورطتا في أنشطة إرهابية أوصلتهما إلى السجن، حيث تقضيان حكماً بـ16 سنةً سجناً في ليبيا.
تستعين المُخرِجةُ بممثّلتَين شابَّتَين لتأدية أدوار البنات في السجن، وقد غُسلت أدمغتهن بالأفكار الأصولية المُتطرّفة، التي تُكفّر وتهدر دمَ كلّ من يُخالفها. ومن خلال إعادة المشاهدَ المفصليةِ التي قدَّمتها الابنتان الأصغر مع أمّهما بمشاركةٍ رشيقةٍ من هند صبري التي تناوبت مع ألفة في تقديم المشاهد، نطلُّ على الحكاية التي قُدِّمت من دون ترتيب زمني، وبتلقائيةٍ أخّاذة، لنقف عند واقع المرأة التونسية، وتحوّلات المجتمع التونسي بعد الثورة، التي أدَّت إلى خيباتٍ كثيرةٍ من صعودٍ للتطرّف، وتراجع الحرّيات، وتفشٍّ للفقر والبطالة والفساد، والتأثير السلبي لذلك كلّه على الواقع الاجتماعي للمواطن التونسي، الذي توهَّم الخلاص قبل أن يفقد الأملَ كلّياً.
برعت المُخرِجة في الإضاءة على معاناة المرأة في ظلّ ظروف الفقر والحرمان والقهر والذل والقمع التي تعيشها طبقةٌ مهمَّشةٌ من المجتمع التونسي، لم تنل المرأة فيها حقَّها في التعليم والعمل واختيار شريك الحياة، تتحدّث ألفة عن طفولتها وشبابها ونشأتها في بيت والدتها، وعن أخواتها، وعن طمع الآخرين بهن لأنّهن بلا رجل، ما دفعها إلى التشبُّه بالرجال كي تحمي أخواتها، وتحدَّثت عن زواجها مُكرَهةً من رجلٍ لا تُحبّه، وتُؤكّد ألفة أنّ أسلوبها الصارم المُتشدّد مع بناتها كان امتداداً وتكراراً لنمط والدتها في التربية. تضحك ألفة أحياناً وتبكي أحياناً أخرى، وهي تُعبّر عن ندمها، وتعترف أنّها السبب في ضياع عمري ابنتيها المراهقتَين خلف القضبان، وقد تصدَّر اسميهما عناوين الأخبار في تونس والعالم عام 2015، بعد انضمامهما إلى تنظيم داعش، الذي شهد صعوداً ملحوظاً في تلك الفترة، وجذب عديدين من شباب تونس للالتحاق به. وتقول ألفة، في لقاء متلفز، إنّها بلَّغت السلطات بأنّ ابنتيها المراهقتَين أصبحتا مُتطرّفتين، بل إنّها طالبت بحبس ابنتها رحمة كي تحول دون هربها من دون جدوى.
تحاول ألفة تعويض قسوتها وتغيير أسلوبها العنيف مع ابنتيها الصغيرتَين، اللتين نجتا بأعجوبة من المُضيّ في درب شقيقتيهما الأكبر سنّاً، وتأمل أن يمرَّ الزمنُ سريعاً كي يلتمّ شمل العائلة من جديد، وهي تعرف أنّ عليها الانتظار طويلاً... تحيَّة إلى المُخرِجة كوثر بن هنيّة على منجزٍ وثائقيٍّ دراميٍّ إنسانيٍّ اجتماعيٍّ سياسيٍّ، سردته نساءٌ مُعذَّباتٌ طامحاتٌ إلى حياةٍ أفضلَ، رغم ما مَررنَ به من أهوالٍ وأحزانٍ.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.