منظومة السياسة الأميركية في سورية على شفير الانهيار

24 أكتوبر 2019
محاولات لإقناع ترامب بإبقاء قوات في سورية(دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -
مع تبلور طبيعة الاتفاقيات الضمنية الأميركية-الروسية في الشمال السوري، هناك محاولات مستمرة من داخل المؤسسة الحاكمة في واشنطن لاستيعاب تداعيات قرار الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من سورية، عبر إقناعه بإبقاء عدد من القوات الأميركية لحماية حقول النفط كحافز لعدم إنهاء التحالف مع الأكراد بشكل نهائي. لكن صراع الأجنحة داخل إدارة ترامب يوحي بأن هناك محاولة لتقاذف اللوم حول فشل السياسة الأميركية في سورية، في وقت يبدو أن العلاقة بين واشنطن والأكراد في سورية على مفترق طرق، في ظل تباعد المصالح بينهما.

التخبّط في المواقف والسياسات والتسريبات الأميركية حيال سورية يدل على الإحباط الذي تمر فيه الإدارة نتيجة تفرّد ترامب باتخاذ القرارات في سورية، تاركاً مستشاريه يتنازعون، فيما الكونغرس يرفع الصوت لكنه عاجز عن التأثير على البيت الأبيض في ظل تقلّبات ترامب المستمرة في الملف السوري.
رئيسة الهيئة التنفيذية لـ"مجلس سورية الديمقراطية" إلهام أحمد، تزور واشنطن هذه الأيام في محاولة لإنقاذ ما تبقّى من هذا التحالف مع الأميركيين الذي استمر حوالي أربع سنوات في معارك مشتركة ضد تنظيم "داعش". المحرك الرئيسي لهذه الزيارة هو نجاح السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام في إقناع ترامب بصيغة أولية، بترك حوالي 200 جندي أميركي داخل سورية. وكشفت محطة "أن بي سي" التلفزيونية أن الجنرال المتقاعد جاك كين (وهو محلل على قناة فوكس) أطلع ترامب خلال اجتماع في 8 أكتوبر/تشرين الأول الحالي على خريطة مواقع حقول النفط في شمال سورية التي لا تزال تحت سيطرة الأميركيين وحلفائهم الأكراد.

هذا الاجتماع الذي حصل عشية العملية التركية في سورية في 9 أكتوبر، فشل في تعديل موقف ترامب، وتبعه اجتماع ثانٍ في 14 أكتوبر بحضور غراهام هذه المرة مع تكرار الرسالة نفسها بأن هذه المنطقة حيث القوات الأميركية فيها ثلاثة أرباع حقول النفط في سورية، مع القول لترامب إن إيران مستعدة للسيطرة عليها في حال انسحبت القوات الأميركية كلياً من سورية. وخلال هذا الاجتماع نفسه، استمع كل من غراهام وكين إلى الاتصال الذي أجراه ترامب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كما رتّب غراهام لاتصال بين ترامب والقائد العام لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) مظلوم كوباني.

هذا على ما يبدو يشرح كيف تحوّل موقف ترامب من الاتصال الهاتفي مع أردوغان في 6 أكتوبر والذي وُصف بأنه ضوء أخضر ضمني للتوغّل التركي، إلى الاتصال الثاني في 14 أكتوبر الذي تلاه قرار البيت الأبيض إرسال نائب الرئيس مايك بنس إلى أنقرة للضغط باتجاه وقف إطلاق النار ضمن اتفاق مع الطرف التركي لسحب مقاتلي "وحدات حماية الشعب" الكردية من منطقة بعمق 30 كيلومتراً تمتد من رأس العين إلى تل أبيض. لكن سرعة دخول روسيا عبر قوات النظام السوري لملء الفراغ الأميركي، جعلت الاتفاق بين أنقرة وواشنطن غير مكتمل من دون توقيع موسكو، وهذا ما حصل حين أعلن وزير الخارجية سيرغي لافروف عن انتهاء العملية التركية في سورية من سوتشي بعد الاتفاق بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، أي تكريس وقف إطلاق النار الذي أعلنه بنس.


مصادر البنتاغون تؤكد أن الجيش الأميركي لن يحمي حقول النفط هذه بشكل مباشر، بل ستكون تحت السيطرة الكردية وسينتشر الجنود الأميركيون قربها في وجود رمزي لحمايتها. بعد قرار وزير الدفاع مارك إسبر سحب هذه القوات في 13 أكتوبر، تراجع البنتاغون هذا الأسبوع، فأعلن إسبر يوم الإثنين الماضي أن الانسحاب قد يأخذ أسابيع للتأكد من عدم وصول "داعش" أو أي طرف آخر إلى حقول النفط. وفيما تحدث إسبر عن نقل ألف جندي من شمال سورية إلى غرب العراق، نفت بغداد هذا الأمر، وأشارت إلى أن القوات الأميركية يمكنها أن تكون فقط في مرحلة عبور عبر الأراضي العراقية. رفض الحكومة العراقية نقل القوات الأميركية في سورية إلى أراضيها، يعرقل خطة البنتاغون التي تقضي بالتدخّل من العراق عبر الحدود إلى الداخل السوري لحماية مصالح واشنطن عند الحاجة.

هذا الأسبوع، بدأ يظهر التصدّع أيضاً داخل الإدارة الأميركية، وبين الإدارة والكونغرس. المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، تعرّض لانتقادات من الحزبين الجمهوري والديمقراطي خلال جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ حول الانسحاب الأميركي من سورية، ما دفع جيفري إلى القول إن هذا القرار اتُخذ من دون استشارته.

كما ظهر إلى العلن في الأيام الأخيرة الصراع داخل الإدارة حول الموقف من الحلفاء الأكراد مقابل الموقف من المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا، لا سيما في ظل شعور المقاتلين الأكراد بـ"الخيانة" وهم يشاهدون خروج القوات الأميركية من شمال سورية. كما هناك شعور بأن تمديد نشر القوات الأميركية لحماية حقول النفط يعرقل الجهود الكردية في الانفتاح على روسيا، طالما أن واشنطن قررت عدم البقاء في سورية على المدى الطويل.
استلام جيفري الملف السوري في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان من العوامل التي ساهمت في تقريب إدارة ترامب من تركيا على عكس ميزان القوى في الإدارة مع سلفه بريت مكغورك لصالح الطرف الكردي كي يعقد صفقة مع موسكو عند الانسحاب الأميركي من سورية. جيفري حاول تأخير التوغّل التركي عبر عقد جولات من التفاوض مع أنقرة حول "المنطقة الآمنة"، لكنه ظلّ حتى اللحظة الأخيرة من الانسحاب الأميركي يضع فيتو على دخول قوات نظام بشار الأسد إلى المناطق الكردية.

زيارة إلهام أحمد عكست هذا التخبّط الأميركي في السياسة السورية، وتحديات العلاقة بين واشنطن والأكراد. مصادر أميركية كشفت لموقع "ناشونال ريفيو" أن مسؤول الملف السوري في وزارة الخارجية جويل رايبورن أبلغ أحمد أن القوات الأميركية ستبقى في سورية حتى لو طلب الأكراد منها الرحيل، فكان رد أحمد بأن على هذه القوات المغادرة في حال لم تحمِ القوات الكردية، ما دفع رايبورن إلى الانفعال و"كسر القلم" على طاولة الاجتماعات. رايبورن من الجناح الذي كان يريد أن تتعاون "قسد" مع المعارضة المسلحة التي تدعمها تركيا، ويلوم "قسد" لأنها رفضت هذا الاقتراح الأميركي. فيما يقترح جيفري فكرة الفصل بين المقاتلين الأكراد والمقاتلين العرب في "قسد"، لبناء قوة مقاتلة لردع إيران بعيداً عن الحدود التركية.

هذا التوتر في واشنطن ظهر أيضاً عند قتل السياسية الكردية هفرين خلف (في 12 أكتوبر)، فكان هناك من يريد إدانة قتلها علناً، ومن حاول عرقلة إصدار أي تعليق أميركي. هناك الآن اختلاف بين البنتاغون وحلفائه المؤيدين للحفاظ على الحلف مع الأكراد، ويعتبرون أن المعارضة السورية المدعومة من تركيا ارتكبت "جرائم حرب"، مقابل مواقف البعض في الخارجية الأميركية مثل رايبورن الذي يقترح التعاون الكردي مع هذه المعارضة المسلحة التي يعتبرها مسؤولون أميركيون أنها مجموعات "جهادية". والاختلافات مشابهة في الكونغرس بين حلفاء ترامب، فمقابل غراهام المؤيد للضغط على أنقرة وإبقاء القوات الأميركية في سورية، هناك سيناتور جمهوري آخر مقرب من ترامب، هو راند بول، يؤيد سحب هذه القوات من سورية وفتح حوار أميركي مع نظام الأسد.

في المحصلة، هناك قناعة في واشنطن بأن الانسحاب الأميركي من سورية سيحصل عاجلاً أم آجلاً، لأن ترامب لن يتمسك طويلاً بفكرة حماية حقول النفط ولأن "قسد" بدأت تفكر جدياً بخيارات بديلة لكنها مثل أنقرة تحاول إبقاء الخطوط مفتوحة مع كل من واشنطن وموسكو. بوتين حصل على صفقة أفضل من أردوغان، مقارنة بصفقة ترامب مع الرئيس التركي، ويبدو أن روسيا أكثر المستفيدين من هذا التخبّط الأميركي في سورية.

المساهمون