منطق مذبحة رابعة مستمر في مصر

14 اغسطس 2017
+ الخط -

جرى، في الرابع عشر من أغسطس/ آب عام 2013، ارتكاب أبشع مذبحة في التاريخ المصري الحديث، حيث جرى قتل نحو ألف مواطن مصري، بدم بارد، في ساعات محدودة. لم تكن "رابعة" أول مذبحة بعد 25 يناير/ كانون الثاني 2011 أو بعد 3 يوليو/ تموز 2013. ولم تكن أول مذبحة تلوم فيها قوى سياسية الضحايا، وتبرئ القاتل أخلاقيا و/أو سياسيا، فقد تعرّض الضحايا، في أغلبية المذابح التي جرت في ظل حكم المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين للوم. اختلفت فقط هوية الأطراف السياسية (غير الحاكمة) اللائمة، لكن هوية القاتل لم تتغير في كل المذابح خلال أعوام 2011- 2017، أي الشرطة أو/ والجيش والأجهزة الأمنية التي أدارت المذابح وأعمال القتل خارج القانون. تتسم المذبحة في ميدان رابعة العدوية بأنها الأكبر في عدد الضحايا، وفي وقت قياسي، وأنها المذبحة التي جرى التخطيط لها بدم بارد قبل ارتكابها، بما في ذلك إعلان مخططيها مسبقا توقعهم سقوط ضحايا بالمئات على أيديهم، وعلى الرغم من ذلك، نفذوا المذبحة بالدم البارد نفسه.


في الذكرى الرابعة لهذه المذبحة المروعة، من الضروري أن يعيد كل مصري، بصرف النظر عن هويته السياسية أو الدينية، إعادة تأمل المغزى التاريخي والسياسي لهذه المذبحة، ودلالاتها بالنسبة لمستقبل بلاده، وأيضا لمدى شعوره بالأمن والأمان على الصعيد الفردي الشخصي.
ليست "رابعة" مجرد مذبحة، إنها عنوان مرحلة، وسياسةُ حكمٍ يظن أن أركانه "تتثبت" بقدر عدد الجماجم التي يعتليها. لذا، فإن "المذبحة" متواصلة منذ أربع سنوات. قد تتغير الأماكن، وقد تتنوع الوسائل مثلها مثل الضحايا الذين باتوا ينتمون إلى خلفياتٍ سياسيةٍ ودينيةٍ أكثر تنوّعا، ولكن المغزي السياسي المتواصل ل "رابعة" عبر السنين لا يتغير باختلاف المكان والزمان، ولا بتغير الوسائل، أو تنوع هوية الضحايا المصريين.



مضت أربع سنوات، لكن منطق "رابعة" يتواصل في أحكام الإعدام بالجملة على المئات في المحاكمة الواحدة التي يصفها خبراء الآمم المتحدة بأنها "استهزاء بالعدالة".. يتواصل في جرائم التصفية الجسدية الجماعية والفردية اليومية برصاص أجهزة الأمن.. في إخفاء المئات قسريا أحياء أو جثثا.. في قتل المئات تحت التعذيب ومئات المرضى بسبب إهمال علاجهم في
السجون.. يتواصل منطق "رابعة" في القصف العشوائي للمدنيين في سيناء.. في مقتل نحو مائة قبطي في خمسة شهور، نتيجة إهمال حماية الأقباط، على الرغم من إعلان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مرات أنه يستهدفهم.. يتواصل منطق "رابعة" في محاكمة آلاف المدنيين، بما في ذلك مئات من مشجعي كرة القدم، أمام محاكم عسكرية.. في سجن عشرات الألوف المدنيين المسالمين، بينهم عشرات الصحفيين، بدون محاكمة أو بدون تحقيق، أو باتهاماتٍ ملفقةٍ ومحاكماتٍ مسيسةٍ.. يتواصل منطق "رابعة" في سجن مفكرين وأدباء بدعاوى هزلية، كازدراء الإسلام أو خدش الحياء العام.. في التسامح الأمني والقضائي والإعلامي مع حملات اعتداء المسلمين المتطرّفين الجماعي على الأقباط ومنازلهم وحرق مقار عبادتهم.. يتواصل منطق "رابعة" في منع عشرات الحقوقيين والنشطاء السياسيين من السفر.. في التحقيق مع المنظمات الحقوقية التي تكشف للرأي العام هذه الجرائم بشكل محايد. .. يتواصل منطق "رابعة" في التقويض المنهجي اليومي لركائز الدولة من دستور وقانون، ولأهم مؤسسات الدولة في مصر، وفي مقدمتها المؤسسة القضائية والجهاز المركزي للمحاسبات ومؤسسات الإعلام.. يتبدّى منطق "رابعة" في بنية الأجهزة الأمنية نفسها التي يتوارى فيها تدريجيا نمط "رجال الدولة" لتسودها تدريجيا عقلية عصابات القتل والإجرام. في كل هذه الممارسات، يتواصل منطق "رابعة"، ويتمدّد عبر الزمن، ليصير عنوانا لمذبحة دولة.


كان خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في 24 يوليو/ تموز 2013، حين كان وزیرا للدفاع، الذي طلب فيه من المصريين منحه تفویضاً شعبيا لما سماها "مواجھة الإرھاب"، هو أكثر المؤشرات وضوحا علي أن المذبحة، بل مذابح أخرى، قادمة، وعلى أن مرحلةً داميةً أكثر قسوة ووحشيةً تتبدّى في الأفق. وأن ما بقي من دولة القانون التي جرى تقويضها تدريجيا منذ يوليو 1952، لن يبقي عليه وزير الدفاع المتعطش للسلطة بأي ثمن، والمستهتر بلا حدود بحق الآدميين في الحياة وفي الكرامة. لذلك، رفض علي الفور مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والذي أشرف بإدارته، بمشاركة منظمات حقوقية مستقلة منحه هذا التفويض، مثلما كان المركز قد رفض تدخل الجيش في الصراع السياسي قبل ذلك بثلاثة أسابيع في 3 يوليو، على الرغم من أن مركز القاهرة كان في مقدمة المنظمات الحقوقية المستقلة التي رصدت جرائم حقوق الإنسان علي مدار العام السابق على احتدام هذا الصراع في 30 يونيو.


 خلال أربع سنوات بعد خطاب التفويض، كان الإرهاب قد تمدد من مدينة رفح على الحدود مع غزة لينتشر في شمال سيناء، ويهجّر الأقباط منها، ويتقاسم السلطة عمليا في عاصمتها / العريش، ويضرب في الجنوب في سانت كاترين، ويؤسس تنظيما آخر لاستهداف الأقباط في بقية أرجاء مصر. فضلا عن تأسيس جماعتين للعنف المسلح، تستهدفان رجال الشرطة والجيش والقضاء. بينما تدفع المنظمات الحقوقية المستقلة ثمن عدم توانيها عن فضح جرائم حقوق الإنسان، على الرغم من التهديدات بالقتل وحملات التشهير المنظمة، والتوعد بإعادة الحقوقيين المنفيين خارج مصر في نعوشهم. إذ تخضع هذه المنظمات، وكذلك حقوقيون بارزون بأشخاصهم، لتحقيقات قضائية هزلية متواصلة منذ عامين، ولأحكام بائسة بمصادرة أموال وممتلكات بعض هذه المنظمات ومديريها، وإنذارات وقرارات إدارية بإغلاقها.


لا يقل ما جرى في مصر بعد ذلك اليوم المشؤوم في ميدان رابعة العدوية بشاعةً على الصعيد السياسي والقانوني والقضائي والإعلامي والأخلاقي، فقد منعت الأجهزة القضائية من التحقيق في مقتل نحو ألف مواطن مصري في بضع ساعات. بل حين طلب رئیس الجمهورية المؤقت، عدلي منصور، بعد سبعة شهور من ارتكاب المذبحة، من وزير العدل التحقيق فيما ورد من انتقادات جزئية بتقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان (التابع للدولة) عن أحداث فض اعتصام "رابعة"، رفض الوزير. ربما تكون المرة الأولى في تاريخ النظام "الجمهوري" في مصر الذي يرفض فيه وزير علنا أمرا علنيا من رئيس الجمهورية، ولا تجري إقالة الوزير. علي الأرجح لأنه كان يتمتع بحماية وزير الدفاع، أي الرئيس الفعلي في ذلك الوقت. لم يكن تواطؤ السلطة التنفيذية على دماء المصريين وحقهم في الحياة جديدا، لكنه صار أكثر سفورا ووقاحة. لقد مهّدت "رابعة" الطریق إلى مستویاتٍ غیر مسبوقة من القمع، طاول كل الأطراف السیاسیة، باستثناء السلفيين. إذ شكلت مذبحة "رابعة" نقطة فارقة في اعتیاد وتطبیع قطاع واسع من عامة المصریین مع مثل تلك الجرائم، وليس مع "رابعة" وحدها.


آمل أن تكون الذكرى الرابعة لمذبحة "رابعة" مناسبة للحظة إعادة تأمل من الضمير الجمعي للمصريين، ومن جانب كل مصري بصرف النظر عن الانتماء السياسي أو الديني، في مذابح السنوات الست السابقة وآلامها، من مذبحة "ماسبيرو" إلى "رابعة"، مرورا بمذابح شارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء وفي استاد بورسعيد ومدينة بورسعيد وأمام مقر الحرس الجمهوري وأمام النصب التذكاري في طريق النصر (المنصة)، ومذابح "الظل" في سيناء، والحملات المنهجية المنظمة التي جرت للتحرّش الجنسي بالنساء خلال تجمعات الاحتجاج السياسي. آمل أن يتصدّر برامج المرشحين لرئاسة الجمهورية خططهم لكيفية إعادة الاعتبار للحق في الحياة بسلامةٍ وأمانٍ وكرامةِ لكل المصريين.

دلالات
334516FD-AFF4-46AA-B13A-7B89B3F9EB48
334516FD-AFF4-46AA-B13A-7B89B3F9EB48
بهي الدين حسن

كاتب وباحث حقوقي مصري، مدير ومؤسس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و له مؤلفات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي.

بهي الدين حسن