منطقة البلطيق بقيت بؤرة توتر روسي- غربي في 2016

31 ديسمبر 2016
امتدت أصابع الكرملين داخل شرق أوروبا مجدداً (Getty)
+ الخط -

لم يمر عام 2016 دون أن يشعر مواطنو دول الشمال وبحر البلطيق بوطأة شدة التوتر الروسي-الغربي في شمال القارة الأوروبية، فكل التحركات الروسية التي اعتبرت استفزازات وإعادة لأجواء الحرب الباردة إلى حيز جيوسياسي خطير ما تزال في الأيام الأخيرة للعام 2016 كما بدأت معه.

الكرملين وجد ضالته في جيب كالنينغراد بمساحة 223 كليومتراً مربعاً على الحدود البولندية والليتوانية، وهو الجيب الذي انقطع عن الدولة الأم روسيا، بعد أن أصبحت ليتوانيا دولة مستقلة عن الاتحاد السوفياتي 1991.

من هذا الجيب، كالنينغراد، لعب الروس لعبتهم العسكرية المفضلة مع القوى الغربية والناتو، وفي خاصرة الشمال الرخوة، جس الكرملين أكثر من مرة ردات فعل حلف الناتو.

حيث نشر الروس صواريخهم المضادة للطائرات بمدى 250 كم، وصواريخ بحرية بمدى 600 كم، أما حلف الناتو فظل يراقب منذ مارس/آذار الماضي التحركات الروسية عبر عمليات استطلاع وتجسس بنشر أنظمة تسليحية اعتبرها خطيرة على بعض الدول.

وكان الأخطر ما ذهب إليه العسكريون في اعتبار الخطوات الروسية "تهديداً جدياً في الصراع الروسي مع الناتو، إذ يحد من حرية الغرب التحرك جواً وبحراً وقطع الطريق لمساعدة دول البلطيق في حال توسع النزاع"، وذلك ما عززه تقرير استخباراتي دنماركي صدر يوم 28 ديسمبر/كانون الأول الحالي كجردة لما حدث وما يمكن أن يحدث مع العام الجديد 2017.

لم يخفِ الإسكندنافيون، وخصوصاً في السويد والدنمارك، مخاوفهم من الاستفزارات الروسية التي وصلت حد التهديد النووي بحق استوكهولم وجزيرة بورنهولم الدنماركية، التي لعبت دوراً كبيراً في الحرب الباردة منذ 1945 كقاعدة تجسس متقدمة على المعسكر الشرقي.

لم يأبه الروس لكل القلق والانتشار الأطلسي في مناطق النفوذ الروسي، في البلطيق وبولندا ورومانيا، وتعزيز دفاعات السويد، وظلوا يرسلون غواصاتهم إلى خليج استوكهولم وجنوب البلد دون رادع، حتى كادت طائرات التجسس الأميركية-الروسية أن تصطدم ببعضها فوق البلطيق.

هذا بالإضافة إلى التحليق الروسي الذي وصل حد تهديد الملاحة المدنية من إسكندنافيا نحو الجنوب فوق البلطيق.

الاستخبارات العسكرية الدنماركية (FE) لم تخفِ أن "منطقة البلطيق شكلت وتشكل مجال الاحتكاك الخطير بين روسيا والناتو"، وأشارت في تقريرها السنوي إلى أن "روسيا تعمل باستراتيجية بناء عسكري في جيب كالنينغراد، حيث من المتوقع نشر صواريخ إسكندر التكتيكية التي من الممكن تزويدها برؤوس حربية نووية، إضافة إلى أن روسيا بصدد إعادة تسليح القوات في الميدان بدبابات حديثة سريعة الحركة بوحداتها المقاتلة في غرب البلاد قرب البلطيق وأوكرانيا".

في تقديرات هؤلاء العسكريين، واستخباراتهم، وصل الأمر في 2016 إلى "حافة التصادم الفعلي"، ولهذا اتخذ قرار في خريف العام الحالي بنشر عسكري غربي هو الأكبر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

التوتر سيستمر

لا يودع هؤلاء عام 2016 دون قلق من القادم في 2017. فرغم العناوين القائلة "خزينة الدولة الروسية تفرغ من احتياطاتها"، وأن "روسيا تعول على ترامب وميركل"، فإن ما يجري تحت سطح العلاقة خصوصاً، مع تكشف التجسس الإلكتروني لقرصنة الانتخابات في ألمانيا، لا يشي بهدوء في الشمال.

فكل ذلك يجعل هؤلاء العسكريين والأمنيين (ومنهم من هو مهتم في برلماناتهم الوطنية بالتحركات الروسية ومتابعتها بدقة) يقرؤون الاستراتيجية الروسية على أنها "استراتيجية الحفاظ على قدرة عسكرية ضاربة وقادرة على غزو بلد صغير في البلطيق دون القيام بتحرك عسكري فعلي".


وهي الاستراتيجية التي تستند إليها روسيا مع الدول التي توجد فيها أقلية كبيرة ناطقة بالروسية،
يعتقد الروس، وفقاً لمصادر برلمانية تتابع الجانب الأمني-العسكري في دول الشمال، بأنهم "من خلال هذه التحركات يرسلون إشارات تخويفية ومحذرة من البناء العسكري الغربي الكبير في شرق أوروبا والبلطيق، لكن الروس، وفقاً لتقرير استخباراتي عسكري أيضاً، لن يخاطروا باحتلال عسكري لدولة في البلطيق. هم يدركون حينها بأن لعب العضلات لن يجدي نفعاً وسيجري تفعيل البند الخامس فوراً".

تنقل صحيفة بيرلينغسكا الدنماركية يوم الخميس 29 ديسمبر/كانون الأول عن مدير الاستخبارات العسكرية لارس فنسن قلقه من "عدم الثقة الروسية بحلف شمال الأطلسي وشهية الروس للعبة المخاطر ستزيد من سوء الفهم والحسابات الخاطئة، فروسيا سوف تستمر في السنوات القادمة بتشكيل أكبر تحد أمني للدنمارك ودول الغرب".

يتحدث رئيس الاستخبارات العسكرية عن أن الروس في 2016 "لم يرغبوا بتحسين علاقتهم بالغرب، بل على العكس عقّدوا الحالة السياسية والأمنية العالمية أكثر مما كانت معقدة سابقاً".

وهو أمر لا يراه الخبراء بعيداً عن الواقع، فتقييم المخاطر الروسية وسباق التسلح، ونشر أسلحة استراتيجية وتكتيكية في كالنينغراد لم يأتِ فقط للرد على تحركات الناتو في عدد من الدول، ولا لمواجهة تحديث نظام الدفاع الصاروخي في بولندا ورومانيا.

هؤلاء يرون الاستراتيجية الروسية تعبيراً "عن طموح بالخروج من مأزق تقلص دور روسيا وفرض عقوبات عليها، وطموح آخر يصعب تحقيقه بالعودة إلى زمن الاتحاد السوفياتي"، كما يصف العضو اليساري في لجنة الشؤون الأمنية في البرلمان الدنماركي، نيكولاي فليسموسن الوضع لـ"العربي الجديد". وهو يصنف الدور الروسي في 2016 بأنه "دورٌ تخريبيٌ يعبر عن انتقال نحو نوع من الامبريالية الجديدة المستغلة لمآسي الآخرين باستخدام أنظمة فاشية متهالكة، وتحالف مع أقصى اليمين المتطرف في الغرب".

وفي العام الجديد 2017 تنقل الصحافة الإسكندنافية عن سفير بريطانيا في الناتو، السير آدام تومسن بأنه "عليها (إسكندنافيا) أن تزيد من إنفاقها العسكري إذا كانت تريد مواجهة التهديد الروسي مستقبلاً".

ما يراه الخبير في الشؤون الدولية، الذي يعمل بمركز الدراسات الدولية في كوبنهاغن، فليمنغ سبليدبويل، غير بعيد عن رؤية العسكريين، حيث يوضح "لدى الروس اهتمام بدراسة سيناريوهات عسكرية مختلفة في البلطيق". ووفقاً لتقرير راند المنشور في سبتمبر/أيلول الماضي فإن الماكينة العسكرية الروسية قادرة خلال 60 ساعة أن تصل إلى تالين وريغا.

ويتابع "لكنني أشك بذلك، فلدى بوتين رغبة بإعادة تأسيس اتحاد سوفياتي رغم أنه يدرك في أعماقه بأن الأمر مستحيل".

وفي 2017 يرى الباحثون في مراكز الدراسات المتعددة في شمال أوروبا بأن "روسيا ستبقي على تسلحها الكبير على طول حدود البلطيق، لكن الغرب سيرد ببقاء دائم لقوات الناتو في المنطقة وتلك الدول، في حين أن السويد وفنلندا ستعززان أكثر فأكثر تعاونهما مع حلف شمال الأطلسي. وبوادر هذا التعاون باتت جلية في 2016".

يعيد الباحثون في الشؤون العسكرية والدفاعية، ومن بينهم كريستيان سوبي كريستنسن من مركز الدراسات العسكرية بجامعة كوبنهاغن، كل ما جرى في 2016 إلى "التحرك الروسي في 2014، فقبل ذلك لم يكن هناك تهديد للبلطيق، والروس اليوم ينظرون نظرة مختلفة للظروف الدولية".

في وسائل الإعلام الروسية وصل أمر عرض "العدوانية الغربية" أوجه في 2016، بل وذهب إلى أبعد من ذلك عبر نشر تقارير دعائية تحط من قيمة وحياة الإسكندنافيين باعتبارهم "شعباً قذراً ويترك الأطفال يشربون من مياه الصنابير ويلعبون على الرمل حفاة" لتختم المراسلة "لذا عليكم أيها الروس أن تشكروا الرب على نعمة أنكم لا تعيشون في الغرب، فحياة الروس في روسيا أفضل من حياة الغربيين"، وذلك وفقاً لتقرير مطول كتبته تاتيانا لوكاشينكو التي عملت مراسلة لأكثر من 5 سنوات في كوبنهاغن قبل أن تغادرها لتنشر تقريرها في أكتوبر الماضي في صحيفة غزيتا الروسية.

مر عام 2016 وسمعة ومكانة الروس عند سكان دول الشمال ليست على ما يرام، بنتيجة ما يشعر به هؤلاء من تهديدات وتصريحات فجة حتى من سفراء الكرملين بحق بلادهم وإمكانية "محوها بضربة نووية". ولم يتغير الأمر كثيراً في ديسمبر/ كانون الأول الحالي، فخروج الناس بمظاهرات معادية لروسيا من بوابة التضامن مع سورية كانت الأكبر في تاريخ تلك الدول منذ انتهاء الحرب الباردة، وتعبيراً عن غضب تجاه سياسة الكرملين في عدم الاكتراث بما يؤمن به هؤلاء، في الشمال، من عدالة وقوانين دولية. وشعورهم بأن التهديد الروسي، وهم ينصتون لخبرائهم وساستهم ووسائل إعلامهم، أكبر بكثير من أي تهديد آخر.

تبادل طرد الديبلوماسيين، والغضب الألماني على محاولات الكرملين التأثير على الجو السياسي عبر القرصنة وتحالفات مشبوهة، كما في السويد والدنمارك، كلها تشي بأننا سنكون أمام عام يبقى فيه التوتر سيد الموقف في البلطيق والشمال، إلا إذا تراجع طرف من الطرفين أمام الآخر. ولا يبدو أن أزمة أوروبا الداخلية في الاتحاد الأوروبي وقدرته على مواجهة التحديات وفقاً لمتابعي شؤونه ستكون سبباً في تراجعه وتسليمه أمام روسيا.