منصور خالد .. السياسة والثقافة بعيداً عن الشعب

25 ابريل 2020
+ الخط -
غيّب الموت السياسي والوزير والمستشار الخاص لزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان الراحل جون قرنق والكاتب السوداني الدكتور منصور خالد، بعد عشرة أيام من خسارة الحقوقي فاروق أبو عيسى، والاثنان لعبا أدواراً مهمة في الحياة السياسية والاجتماعية في السودان عقوداً. وكلاهما قانونيان ضليعان، وينتسبان إلى جيل فريد من السودانيين، موسوعي المعرفة متعدد الاهتمامات، ممن ولجوا الميدان السياسي، وعملوا بتفانٍ في معركة السودان الكبرى لنشر الوعي وإحداث التغيير والتقدم. بهذا المعنى، شأن كثيرين من أبناء جيله الذين تربوا في بيئة دينية ودرسوا اللغة العربية، وتفقهوا في علومها، مثلما تفقهوا في علوم الدين، ثم صقلوا ذلك كله بالعلم والمعرفة في أوروبا في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، تجد في منصور خالد اللغة الأدبية الرفيعة، وبالقدر نفسه الثقافة الواسعة المتشعبة ومن الوزن الثقيل في القانون والسياسة والاجتماع والفن. وقد جعلت صفاته أحد خصومه السياسيين، عبد الله علي إبراهيم، يعترف بقدراته ومميزاته، فيقول عنه "يولد بعضهم بملعقة من ذهب، وولد الدكتور منصور خالد بملعقة من حسن العبارة ومضائها". 
ومع ما كانت تحيط بالراحل مما يحيط بأترابه من أبناء جيله من استنارة ووعي، فإنه كان متهافتاً على السلطة، وراضياً بسوء الاختيار غير متبرئ منه. تجده مؤيداً متحمساً مدافعاً صلداً عن نظام الرئيس جعفر النميري في سنواته الأولى، بل وما بعدها أيضاً، ثم المبالغة في هجائه. تقرب من النميري، حتى أصبح أحد ثلاثة أحاطوا به، مع رفيقيه عمر الحاج موسى وجعفر بخيت، إلى درجة أنه قرّ في أذهان كثيرين أن ثلاثتهم هم من صنعوا منه ذلك الفرعون البشع الذي تبرأ منه منصور خالد نفسه فيما بعد. تقافز في المواقع وتنعم بالسلطة، فها هو يعمل سكرتيراً لمكتب رئيس الوزراء الأول، عبد الله خليل، على الرغم من ارتباط هذا الرجل بالطائفية السياسية. وفي الوقت نفسه، يطرح نفسه أحد رواد التجديد والحداثة. عين وزيراً للشباب في حكومة النميري الأولى، ثم وزيراً للخارجية، وأرسى أسس دبلوماسية سودانية حديثة عصرية مواكبة، وهو ما جعل وزارة الخارجية السودانية تذكر في في بيان نعيها له مآثره الدبلوماسية. وقد دافع بقوة عن اتفاقية أديس أبابا للسلام في جنوب السودان التي وقعها النميري عام 1972، ثم ما لبث أن جعل من خروج النميري عليها سبباً معلناً أصبح بموجبه أبرز السياسيين الشماليين المنضمين لصفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق عام 1984، ليصبح الشمالي القادم من أقصى الشمال السوداني، المؤيد المتحمس للجنوبيين في نضالهم ضد الشمال.
كانت له حواراته الفكرية الثرية في السبعينيات مع الوزير والمؤرخ الدكتور جعفر بخيت، وكانت مفعمة بالمعرفة الثرة واللغة الذربة، تتقاذفه أمواج ثقافة أوروبية فرنسية أنجلو ساكسونية، فتحسبه 
منهم لفرط معرفته بالتاريخ والسياسة الأوروبية، ثم تحمله أمواج العروبية، وتعلو به أفريقانيته، وتقذف به على تخوم قرية أروشا كأفضل ما يكون الأعجاب بتجربة الرئيس جوليوس نيريري في تنزانيا. وقد عرف عن الدكتور منصور خالد حبه الواضح الحياة المرفهة والعيش الرغيد. وقد سألت أحد المقربين من جون قرنق عن سر هذه العلاقة غير المفهومة بين قرنق ومنصور خالد، على اختلاف مشاربهما السياسية، فأجابني أن قرنق ذكي، ويعرف حب منصور الحياة والعيش في مستوى راق، ويدرك حبه للثروة والمال. ولهذا أوعز لكل قيادات الحركة الشعبية بأن يتركوا منصور خالد في حاله. كما استغل قرنق التقدير والاحترام اللذين كان يحظى بهما هذا المثقف اللامع في الولايات المتحدة، فكثيرون من تلامذته في جامعة جورج تاون أصبحوا أعضاء في الكونغرس، وكان له معارفه الكثيرون في أروقة الأمم المتحدة التي عمل فيها سنوات مساعدا للأمين العام للشؤون القانونية. وفوق هذا كله، كانت علاقته بسوق السلاح من خلال صداقاته المعروفة مع تجارها الكبار، عدنان خاشقجي وغيره، مما كان مصدر بيع وتجارة السلاح التي كانت ترفد الحركة الشعبية بما تحتاجه، وهذا كله وغيره مما يفسر، إلى حد كبير، قربه الوثيق من قرنق.
وبعيدا عن ذلك، منصور خالد مثقف من الطراز الأوروبي الراقي، المحب للفنون واللغة والموسيقى بدرجة تجذب فيها الخرطوم في عهد توليه وزارة الشباب المغنيتين، الغامبية فيكي بلين والجنوب أفريقية ماريام ماكيبا. وتبقى مؤلفاته الرصينة الموسوعية التي شرح فيها أمراض السياسة والمجتمع عامة في السودان مراجع مهمة لا غنى عنه لكل باحث في الشأن السوداني. وقد أثار كل واحد منها جدلاً كثيراً منذ كتابه الأول "حوار مع الصفوة"، ثم ما تبعها من مؤلفات "لا خير فينا إن لم نقلها" و"السودان والنفق المظلم" و "جنوب السودان في المخيلة العربية" و"النخبة السودانية وإدمان الفشل" و"السودان، أهوال الحرب وطموحات السلام - قصة بلدين"، و"الثلاثية الماجدية.. صور من أدب التصوف في السودان". وقد استطاع الراحل أن يخضع كل كتاباته لما أسميه الفلتر السياسي والأخلاقي الذي أحسن توظيفه، فهو ينتقد "النخبة السودانية 
وإدمان الفشل" لكنه بريء منها بكل ما تعانيه من أمراض وشوائب. وقد أعمل فلتره الخاص، فلم يغشَ في كل ما كتبه عن جعفر النميري اللحظات الشخصية، ومنها التي كان جالسا في أحد أكثر الوقائع مأساوية في تاريخ السودان الحديث، في "محاكمات الشجرة" في يوليو/ تموز 1971، والتي اختصت بزعامات وقيادات من اليسار السوداني، كتب عنها الفرنسي الشجاع أريك رولو، فيما صام منصور خالد تماما عن كتابة شهادته عما رآه، وكان جالسا أمام عضو مجلس قيادة الثورة ونائب رئيس الاتحاد الاشتراكي السوداني، أبو القاسم محمد إبراهيم، لحظة تعذيب النقابي الشيوعي، الشفيع أحمد الشيخ، حتى الموت. وهو فلتر يذكر بفلتر الكاتب الروسي ستيفان هرملين في تبرير صمته على مجازر ستالين "لقد تحالفت مع سفاح ضد سفاح آخر متوحش". بهذا المعنى، استخدم منصور خالد فلتره الخاص ليسجل اسمه من طينة الأرواح النبيلة من السياسيين السودانيين الذين خرجوا سالمين، لأنهم آثروا الصمت وسلامتهم الشخصية، فتجنبوا سبل الأذى والضرر، وآثروا العيش والسلامة بعيدا عن الضرر. وهنا مأساة جيل الاستقلال والأجيال التي أعقبته، فلم يتركوا أثرا يوسع من دائرة الوعي والتقدّم بقدر ما تركوا إرثا من طائفية مقيتة وتخلف وواقع بائس، وهو ما تدور حوله هذه الأيام معارك الثورة السودانية.
ومهما كان، سيذكر التاريخ السوداني منصور خالد مثقفاً عتيداً عاش حياة لا تخلو من تناقضات بين ما آمن به وواقع فشل في أن يختار فيه المكان المناسب له بين صفوف الشعب، مفكّراً مدركاً هموم عامة الناس. وعاش حياته في جدل مرهق بين الصفوة المثقفة، من دون أن يتخذ موقفاً أكثر وضوحاً وجرأة والتصاقاً بحركة الشعب والشارع. ولهذا ظلت كتبه وأعماله هاجساً لدى الصفوة، ولم تعن كثيراً عامة الناس الذي خبروه في أروقة حكم جعفر النميري وأوساط جون قرنق. لا جدال في أنه، رحمه الله، ترك إرثاً ثقافياً وموسوعياً من المعرفة التي حتماً ستكون مصدراً مهماً لكل من يهتم بالتحديث والتجديد في السودان.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.