منزل الجثث

02 نوفمبر 2015
لوحة لكمال بُلّاطه، من معرض "وكان النور" لندن، 2015
+ الخط -
أجلس على الأريكة الممزقة من مخالب القطط، أضم يديَّ إلى بعضهما، وأمد عنقي محدقاً من وراء الزجاج. ألمح جسدي يركض في الطرقات النحاسية المستعرة، تسيح ملامح الوجه، ينتفخ الجلد بدماميل وفقاعات. يتصاعد الدخان من المسامات المتفحمة. شاحباً أعبر مستنقع الأطراف المبتورة والمشوهة ثم أغرق رويداً رويداً. أنتفض وأرفس النافذة بقوائمي، أضرب رأسي بالسطح الأملس. ألهث حائراً، ثم ألعق الدم المتخثر حول النافذة. أقفز نحو الأرض، أحوم على قوائمي الأربع. ستعود صاحبتي بعد قليل. لا أدري كم يكفيني من الوقت لأفترس أحلامي التي دفنتها أسفل المنزل. تقول لي صديقتي إننا في منزل طائر. نعبر من خلاله جميع الحدود. تضعني كل يوم قرب الأريكة وتطير.
 
ما زلت أرتعش من الحدود. الطائرات تعبرها بخفّة اليرقة وتصقل بأجنحها سقف السماء. ترسم صاحبتي كل يوم طائرات وتطيّرها من النافذة نحو قوافل الأطفال العابرين كالجراء المروضة نحو السيرك. أتدرّب كل يوم على محو رعب الحدود والحواجز. أحلم بأن أكون طائرة، لا أحب العصافير الهشّة. سأصنع لنفسي جناحين من حديد وأحلق بهما فوق المدن وأسلي نفسي بقصفها. سأخرب المدن جميعها وأحيلها إلى خراب، أكثر المدن ضجيجاً وأكثرها اكتظاظاً بالسكان. سأحيل الأبنية فيها وناطحات السحاب والمتاحف إلى قبور جماعية.

اقرأ أيضًا : مقصلة الخيانات

أنظر حولي، كل شيء يبدو أزلياً. كأن العالم شاشة كومبيوتر مسطحة خالية من الحياة. الأبعاد مشوهة كأنها سطحٌ أملس رسم بدقة. الزمن مشوّه كما لو أنني في "أفق الحدث"*. يمر الزمان حولي فأبتلع الهمس، الابتسامات، البكاء العويل، الرعشات. أرمح في المنزل. أفتش عن الأفكار التي تتقافز ككرات صغيرة، فلا أجد سوى ظلال قديمة تتراقص كأنها قادمة من كوكبٍ آخر. هل وضعت لنفسي مصيدة في زمنٍ مضى؟ أفلّي جسدي من أثر الزمن المتراكم باللغة. أمرّن صوتي على الصراخ وأستمع إليه.

أقلع البلاط بأظافري، أنبش طبقات الأرض السميكة. ينغرز التراب بين اللحم والأظافر. أخرج الجثث المدفونة، أشمّسها أتحسسها، ألعق جراحها الطرية. أقضمها بالأنياب المسوسة. الطائرات تعبر بلا جنسيات. أتخيّل شكل الطيار وأقضم الرأس المثبت بين مخالبي. أسمع صوت صاحبتي تترجل من السيارة. في كل يوم تخرج نحو الأفق وتصنع منه معبراً نحو غرفة الجثث التي كنا ندفن فيها صورنا. ندوّن قتلانا في "مذكرة الموت"**، كي يتحولوا إلى حقيقة. أدوّن الأسماء في مستطيلات على الجدران. وفي كل مرة أبتسم لصورة تسقط مضرجة في القبر المحفور أسفل المنزل.

دفنت في قاع المنزل صور أفراد عائلتي وأصدقائي. كلما شعرت بالحنين أنبش الصور التي تتحوّل إلى جثث وأتناولها لأخفّف قرقرة الحنين في معدتي. صاحبتي تأتي في كل يوم، برجل ذي جنسية مختلفة، ليتفرج على معرض الجثث الحميمي. تضحك فتسقط مزيد من الجثث. تركض في أرجاء المنزل فأركض وراءها، ترقص، تغني فأحوم حولها لترمي لي قطع اللحم المخبأة في حقيبتها. يتطاير ثوبها وتدورفتسقط من بين فخذيها مدن وبلدات وأحياء، فألعقها وأنا أهز ذيلي في كل الاتجاهات.

اقرأ أيضًا: المكتبة المحرمة

أعود نحو الأريكة، أستلقي كخيلٍ هاربٍ من معركة. أحدّق بالنافذة، فيفز عني المطر. يذكرني المطر بسماء متلبدة، وفي كل سماء متلبدة ثمة قصة مشبعة بالمرارة. كانت جدتي تروي لي قصص الموتى المتفسخين في الوحل شرق طبريا. وفي السماء المتلبدة، حبلت بطفل ورمته قرب سوق السمك الزنخ. يقترب الغيم الرمادي كباخرة للخطايا نتقيأ فيها أجنةً مشوهة تولد مع ملامسة الماء لأجسادنا. وفي السماء المتلبدة سقطت أغاني آذار والرقصات والغناء والهتاف. جرت مع الماء المتدحرج في أزقة المدن. تسيل منها عصارة المسام والروائح المتعفنة، تمتزج مع البول والفضلات والوحول وتجثم في قعر المدن كخزّان كبير للشرب.

أرسم خرائط على النافذة، أبحث عن أرض جديدة وعن سكان أصليين لأقتلهم. أحمل فأساً وأخرج، سوف أجمع الذهب العتيق، أحب الخشب يطفو على الماء. يسير نحو الزرقة الزائفة. أتتبع خطوط المدارات، لا بدّ من أنها ستوصلني إلى نهاية!.

لا نهاية في الخطوط الدائرية. ترسم صاحبتي خطوطاً دائرية لأحوم فيها. في كل يوم تروي لي فصلاً من كتاب هزلي: تقول بنبرةٍ حزينة: "خرجوا ذات يوم وقد استشعروا أصواتهم، ولكن من السهل على الرجل العجوز أن يخلخل تلك القدرة على تمييز الأصوات. ثم يجعلهم الرجل العجوز خرسًا لا يسمعون سوى أصوات أنفسهم". وعند الفصل الخامس من الكتاب، تضع موسيقى وتبتسم بحماسٍ ساخر: "فصل الغوايات".

ينحدر لساني خارج فمي لاهثاً، أدنو من الباب. أجلس منتظراً. قرب أحد الأبواب كنا نجلس بهدوء. نفكر في سماء فارغة من الطائرات. لم نتفق حينها رغم اقتراب أسراب من الجنود. كان يكفي أن نخرج بعض الصور لنعرف أنه لا يمكننا اغتنام الذكريات. وأننا في كل مرة نطيل التحديق، تولد طائرات جديدة، فالتحديق يخلق للوحش أجنحة.
. جميعهم يحدقون بي كل يوم من النوافذ. ألمحهم يقتربون، يلصقون وجوههم، يحدقون بأمعائي التي التهمتها وبقطع الدم على أسناني. أريد التوقف، فلا أستطيع، ولا هم يمنعونني. فقط يحدقون. أغلق النوافذ، فتظلّ عيونهم تخترق الجدران. أعوي لأصرف تعويذة التحديق عني.

أنظر بالمرآة، لا أميز ملامحي. تتغضن الخدود. وبرٌ كثيف يغطي حنكي المتطاول نحو الأمام. العيون ذابلة تنحدر نحو الأسفل. أصرخ فأسمع عواءً ثقيلًا. أحكّ المرآة بمخالبي، ربما وجدت نفسي وراء السطح الأملس. أضرب المرآة التي لا تنطق، فتتطاير الشظايا. ألمح آلاف الضحكات والابتسامات التي لن تعود. ألمح صورتي التي تكسّرت إلى آلاف القطع الصغيرة. يفتح الباب، أهرع نحوه. تدخل صديقتي وترسم لي دوائر. أدخل الدوائر وأحوم حولها لاهثاً.

*أفق الحدث: هو الحد الخفي للثقوب السوداء الذي لا يستطيع شيء الهرب منه بما فيه الضوء.
** مذكرة الموت: سلسلة قصص للمؤلف تسوجومي تتحدث عن مفكرة تحمل اسم "مذكرات الموت".
المساهمون