يتعيّن عليك أن تبدو لطيفاً وأنت تشاركهم مائدة العشاء، بعد لقاء أبليتُم فيه حسناً، فقرأتم لبعضكم بعضاً، واستمع إليكم صاحبُ المكتبة وزوجته وصديقتها، إضافة إلى موظفات الطاقم الخمس (واحدة منهن على الأقل تجيد فن التصوير بواسطة "الآيفون").
تعرف، لقد دفعوا لك تذكرة الطائرة ذهاباً وإياباً (من برشلونة إلى إيبيسا، من هذه الجزيرة إلى تلك المدينة) مع كلفة الفندق أبو أربع نجوم، و200 يورو لقاء القراءة. يتعيّن عليك، إذاً، أن تضحك وتصخب مثلهم، بينما رئيس النُّدُل يوزّع مطوية الطعام والابتسامات، ليختار كل واحد منكم أطباقه الثلاثة، فيكتبها هو فوراً بالقلم الإلكتروني، مخافة النسيان.
ستبدو لطيفاً بالفعل لمدة نحو ساعة (مع أنك لم تنم إلاّ طشاشاً)، بل وحتى حميماً مع ضيوف لا تعرفهم، ونساء حضرن ولم ترهنّ في الأمسية، لكن ما بال هذا الكرب لا ينتهي؟ لقد قرأت لمدة ثلاث دقائق متواصلة، فهل ينبغي أن تنصت وتثرثر لأربع ساعات؟
يتكلّمون عن الريجيم والرياضة، عن أفظع الأسماء القبيحة للإناث الأوروبيات، عن الإرهاب وقوارب البحر، عن الترجمة مِن وإلى، بينما تغصّ أنت في طبقك الثاني الرئيسي الذي ظننته سلطة خضروات، وإذ به أضلاع خنزير مسلوقة مع حبتي بازيلاء وحيدتين، تلمعان جيداً على حواف الصحن الصيني الأبيض.
ـ هل تريد مزيداً من النبيذ الأحمر؟ كلا، أريد أن أنام.
تضحك زميلتك الألمانية فارعة الطول والنحافة، وتقول إن جملتك التي قلتها لها قبل عام في جزيرة بالما عن أن "المترجم رجل سلام من الطراز الأول"، لا يمكن لها أن تنساها أبداً، ثم تذكّرك بأنك كنت قد أعطيتها كذلك لقب "بروليتاريّة الليل"؛ لأنها تعمل من بيتها وليلاً فقط في ترجمة النثر الكتلاني.
ـ أنا؟
وهي أُعجبت باللقب كثيراً، وأخبرت أمها هناك في دوسلدورف به عبر "السكايب" وضحِكَتا طويلاً.
ـ دوسلدروف؟ بالأحرى قرية من قراها. هناك ولدتُ لعائلة فلاحين يحرص جميع ذراريها ما عداي على استمرار النسل.
يأتي الطبق الثالث بعد دهر، وتكون أنت اعتذرت عنه، لأنك تأخّرت عن أخذ حقنة الأنسولين، منتظراً أن يتحلّين وتنتهي الجلسة.
في الأثناء، تفكر في الألمانية، ولا تجد لها من صفة غير "الهايشة" التي أطلقها يوسف إدريس على واحدة من بطلاته في الخمسينيات. كما تفكّر في حبتي البازيلاء اللتين لم تمسسهما، لا هما ولا ما حولهما، وتتخيّلهما تطيران الآن، وقد ذهبتا إلى المطبخ مع النادل البيروفي، ومن هناك تُقلعان على هيئة قملتين عملاقتين إلى بلادك.
ستأخذ وقتاً ـ والحق يقال ـ في اقتراح اسمٍ لهما، قبل أن تغفو على كتف شاعرة مشهورة، ثم تتوكّل على الله وتعطيهما لقبين وعليهما الاختيار: إما "قملة الرأسمالية الكبيرة"، أو "الأباتشي".
ـ ما لك غفوت؟ الوقت لا يزال مبكراً لإنهاء السهرة.
ـ لا شيء، منذ أن يولد الشاعر، يصبح الوقتُ متأخّراً يا عزيزتي.
اقرأ أيضاً: أطلس مجهول