منحنيات التسويق الروسية

11 يونيو 2019
+ الخط -
لا شيء ينجح من المرة الأولى، والدنيا فرص يا ابن عمي! بهذه الجملة افتتح كلامه، كنا قبلها بلحظات نخوض في موضوعات لا يربط بينها خيط، لكن جملته وما صاحبها وغلفها من غموض أثارت شيئًا من الانتباه؛ فلما أعطيناه انتباهنا طوعًا لا كرهًا، سرَّه ذلك فطقطق أصابع يديه وفتح صدره وتدفق حديثه.

لو تدرس تسويق أو علوم بحار، ليست النقطة المحورية هنا، بل إن المرتكز الرئيس ينصب على وجود الفرصة، وقدرتك على اهتبالها والإفادة منها بكل ما أوتيت من قوة. ما إن قال جملته، وكأنه شبعانٌ يفتُّ للجائع فتًّا بطيئًا، حتى مرَّ بسبابة وإبهام يسراه على شفتيه، وإمعانًا في التشويق سألنا: أتريدون مثالًا؟

نظر إليه شامل ويكيبيديا وملء وجهه التأفف، وقال له بقرف مصطنع وتكلف ملحوظ: سامع في جملة البلاغة الإيجاز؟! فأحس صاحبنا أنه بحاجة إلى تبني وجهة النظر وإن لم تكن على هواه؛ فأكمل يقول: التسويق يرفع أسهمكم في المجتمع، ويضفي عليكم قدرًا من الوجاهة والجاه -ولا نعارضه في ذلك- وأمامكم مثلًا كينسي ولانيسكي.


كان عدد متابعيها على إنستغرام 300 ألف متابع -حينها قال بعضنا في حماسة ياريتني كنت أنا يا أخي.. تصدق بالله ياريتني كنت أنا، لكن صاحبنا لم يعلِّق على مداخلته وواصل حديثه- وسنحت لها سانحة اهتبلتها ورفعت عدد متابعيها إلى 800 ألف متابع خلال ساعات، بل ويزيد عدد متابعيها 100 متابع كل ساعة!

هنا لم يحرِّك أحدنا ساكنًا ولم يُسكِّن متحركًا، كأن على رؤوسنا الطير، أو أن حزامًا ناسِفًا شُدَّ علينا وبحركة خفيفة منا سينفجر؛ فاستسلمنا وخاطبته وجوهنا أن هات الخبر. وقال صاحبنا: هذه البنت يا سادة -يحدثنا بالطبع على أننا من وجهاء المقهى وعِلية العواطلية- استثمرت فرصة واحدة فقفز عدد متابعيها إلى هذا الرقم الأسطوري لكل واحدٍ منكم؛ أليس كذلك؟!

ولم ينتظر منا جوابًا أو بالأحرى لم يترك لنا فرصة لذلك، وقال موبِّخًا: منكم من يتابعه ثلاثة أشخاص، مات اثنان منهم والثالث يهدده بإلغاء المتابعة -وكان يقصدني ولكنني لا أنكر الحقائق- ومنكم الفنان الكومبارس المغمور يتلمس بُنيات الطريق، ولا يجد إلا المقاهي ليعرض بضاعته -وكان يريد صديقنا المهلهل- ومنكم الخطيب المصقع أو الذي يرجو لنفسه ذلك، ويتمنى أن يشار إليه بالبنان، وآخر قد شفَّه جورُ الحبيب لهجرِه وصدودِه -ورحم الله صفي الدين الحلي- لكنها لا تراه، فإن وقعت عينها تجاهه رأت فرخ ورق شفاف! تعلموا من ولانيسكي فلربما تحققوا بعض ما ترجونه.

بعد هذا التوبيخ، غلت مراجل الغضب في صدورنا والتهبت الأرض تحت أقدامنا، والتمسنا حلم الأحنف بن قيس حتى لا نتغابى عليه، وزاد في حلمنا أن أرسل صاحبنا هذا جزاه الله عنا خير الجزاء- على مجموعة واتس آب صورةً للعزيزة كينسي ولانيسكي؛ فهدأت النفوس وتطامنت لمتابعة قصتها، ولو وبخنا صاحبنا هذا أضعافًا مضاعفة، ولم نتفاعل مع اعتراضات شامل ويكيبيديا بأيّ شكل.

وعلمنا أن ولانيسكي روسية؛ فقال الجنابي "الروسيات يُنصح بهن"؛ فرد المهلهل مؤمِّنًا على قوله "صدقت والله والصورة أبلغ دليل"، وقال آخر "ليش ما تتركوا الرجل ينوِّرنا ويكمل السالفة؟"، فعاد الهدوء يخيِّم على جلستنا، وعدنا نسمعه يقول: هذه الروسية الحسناء اقتحمت ملعب واندا ميتروبوليتانو بمدينة مدريد، في المباراة التي جمعت ليفربول الإنكليزي وتوتنهام الإنكليزي برضه!

قاطعه المهلمل ساخطًا: بأيّ حقٍ تقول إنها اقتحمت الملعب؟ هل دخلت الملعب ب"مترليوز" أو "كلاشينكوف"؟ دي بنت زي لهطة القشطة؟ ياليت ناخد بالنا من ألفاظنا يا أخوانا. ومهلهلٌ هذا -قبل أن يفوتني المجال- ليس اسمه وإنما لقب خلعناه عليه، تشبيهًا له بالمهلهل بن ربيعة التغلبي، وهو رجل فلاتي ويروقه أن ينادى بالفلاتي عوضًا عن زير النساء، ثم إن كلمة زير لا تتواءم وحجمه الضئيل، ويأخذك بأحاديثه إلى عالم الخليع البغدادي، وأبي الفرج الأصفهاني والشاب الظريف، يدوب في ظل الجنس اللطيف، وإن لم يظفر منهم بقليل ولا كثير، يجري مجرى قيس الرقيات وعمر بن أبي ربيعة.

وكان أن دخلت ولانيسكي الملعب بمايوه بكيني قطعة واحدة، واشتعلت المدرجات فوق اشتعالها، وقدمت ولانيسكي فاصلًا إعلانيًا جدد النشاط وأثار المشاعر، كل المشاعر، وفاز ليفربول بالمباراة والكأس، وتوتنهام بالوصيف، وولانيسكي بزيادة عدد متابعيها، والجمهور -لاسيما العربي- بمتعة المباراة مصحوبة بدفعة من غسل العيون؛ فانتهزوا الفرص إن وجدت أو فاصنعوها، ولا تناموا وتنتظروها؛ فإنها لن تطرق أبوابكم، وستظل حياتكم في الظل أو هنا على هذه الطاولة، ثم خفض صوته قدر استطاعته وهو يقول "في هذه المقهى اللعينة".

انتهى صاحبنا من محاضرته التي جمع لنا فيها بين ترغيب وترهيب، واستخدم وسائل مرئية محفزة، وأخرى بحركات يديه جمعت توبيخًا وتحريضًا، ولم يكن شامل ويكيبيديا ليترك المنبر دون أن يعلي ويأفور ويضيف لمساته وتكاته؛ فكان أن تنحنح ثم قال: لكنك لم تذكر شيئًا عن حياتها قبل دخول الملعب، ولم تعرِّج على حياتها ولا عملها وعلاقاتها! هنا توتر صاحبنا وغرق في شبر ميه، وأيقن أن ويكيبيديا سيسحب البساط من تحت قدميه، إن صدقًا وإن كذبا؛ فتشاغل وادعى ارتباطه بموعد طارئ، وخرج يتمتم: الله يخرب بيتك يا أخي! لازم تحط التاتش والسلام؟ ده أنت غلبت حزلقوم!

وحانت التفاتة من عبده الترزي، يبدو أن الصورة أكلت عقله طويلًا، فلما أفاق من سكرته قال وقد ثبَّت عينيه على الصورة: يا أخويا.. ودي فين جوزها دي؟ ده اسمه كلام يا ناس؟ دا احنا مابنشوفش نسوان على كده؟ وكانت هذه الكلمات تحديدًا أفضل وقت لمداخلة شامل ويكيبيديا ليتم الفكرة، وطفق يقول: ما أسخم من ستي إلا سيدي!

تبنى شامل ويكيبيديا لغة ويكيبيديا مصر (حاجة مستفزة وتجيب للبالغين شلل أطفال!) وقال: ولانيسكي دي تبقى مِرات فيتالي زدوروفيتسكي، وهو كمان من المشاهير، وسبقها واقتحم ملعب ماراكانا بمدينة ريو دي جانيرو، أثناء مباراة نهائي كأس العالم بين ألمانيا والأرجنتين في البرازيل 2014. استولى الطرب على المهلهل، وشكر ويكيبيديا على حسن اختيار لفظ "اقتحم" مع زدوروفيتسكي؛ فهو يناسبه لا ريب، لكنه لا يوائم طبيعة ولانيسكي الرقيقة، والهوى لمن هوى.