مناورات "حزام الأمن البحري": تحدٍّ إيراني روسي صيني لأميركا

29 ديسمبر 2019
تظهر المناورات استقواءً إيرانياً بالحلفاء (عطا كيناري/فرانس برس)
+ الخط -
أكثر من رسالة تحملها المناورات البحرية المشتركة بين إيران وروسيا والصين في مياه شمالي المحيط الهندي وبحر عمان، وهي المنطقة التي كانت إحدى أبرز ساحات التوتر بين طهران وواشنطن في الأشهر الأخيرة، مع وقوع هجمات على ناقلات النفط واحتجاز سفن وناقلات واستقدام مدمرات وقطعات بحرية أخرى من قبل أميركا وحلفائها، والعمل على تشكيل تحالف بحري عسكري في مواجهة إيران، كلها عوامل تطرح أكثر من تساؤل حول أهداف المناورات الثلاثية التي هي الأولى على هذا المستوى منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979.

انطلقت هذه المناورات التي تحمل اسم "حزام الأمن البحري"، يوم الجمعة الماضي، وتستمر أربعة أيام على أن تنتهي غداً الإثنين، وتدخل اليوم الأحد المرحلة العملياتية بعد تحرك القطع البحرية المشاركة فيها من ميناء جابهار الإيراني نحو شمال المحيط الهندي. وعقد قادة عسكريون بارزون من الصين وروسيا وإيران، اجتماعاً تنسيقياً أمس السبت، على هامش المناورات، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (ارنا).

وتشارك في المناورات القوة البحرية التابعة للجيش الإيراني، وهي الجهة المستضيفة، بخمسة طرادات بقيادة الطراد "ألبرز"، أحد أكبر الطرادات الإيرانية، ويبلغ طوله 94 متراً وعرضه 11 متراً ووزنه 1500 طن، وسفينة عسكرية أخرى وطائرتين عموديتين. كما أن روسيا أشركت في المناورات ثلاث قطع بحرية عسكرية من أسطول بحر البلطيق، والصين أيضاً شاركت بطراد قاذف للصواريخ. وتجري المناورات في مساحة 17 ألف كيلومتر مربع في شمال المحيط الهندي وبحر عمان، في منطقة تمثل نطاقاً جغرافياً استراتيجياً في التجارة العالمية، لا سيما في مجال الطاقة، إذ تحتضن هذه المساحة ثلاث أكبر وأهم مضائق في العالم، هي باب المندب ومالاغا ومضيق هرمز، التي توصف بأنها المثلث الذهبي لعبور أكثر من نصف التجارة العالمية منه. من هنا تأتي أهمية المناورات، والرسائل التي تسعى الجهات المشاركة فيها إلى إيصالها، مجتمعة أو منفردة. وتتجاوز هذه الرسائل الأهداف المعلنة للمناورات، التي لخّصها السلاح البحري الإيراني في ثلاثة عناوين، هي: تعزيز أمن التجارة البحرية الدولية، ومكافحة القرصنة البحرية والإرهاب البحري، وتبادل الخبرات والمعلومات في مجالات الإنقاذ والإسناد والعمليات.

وبين الأطراف المشاركة في مناورات "حزام الأمن البحري"، تبقى إيران الأبرز، وهي تولي هذه المناورات اهتماماً بالغاً. والأهمية القصوى التي تكتسبها المناورات بالنسبة لطهران، تعود إلى الظروف الحساسة والتهديدات والتحديات المتصاعدة التي تواجهها منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في الثامن من مايو/أيار 2018، والتي دخلت مرحلة أكثر خطورة في الذكرى السنوية الأولى من هذا الانسحاب، بعد فرض حظر تام وشامل على صادرات طهران النفطية، وما تبعه من "حوادث نفطية" في مياه الخليج، عسكرت الملاحة البحرية في المنطقة، وانتهت حتى الآن إلى تشكيل واشنطن تحالفاً بحرياً دولياً عسكرياً في مواجهة "التهديدات الإيرانية".

وتمثّل المناورات، وفق الخطاب الرسمي، محاولة إيرانية للرد على الاتهامات الأميركية لطهران بزعزعة أمن الملاحة البحرية في المنطقة، إذ أشار وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في تغريدة على "تويتر"، الجمعة، إلى أن إجراء هذه المناورة البحرية المشتركة يظهر أن إيران وشركاءها "ملتزمون بتأمين أمن الممرات المائية الحيوية".

كما أن المناورات تظهر استقواءً إيرانياً بالحلفاء في مواجهة "الأعداء"، لتحمل رسائل أخرى للولايات المتحدة من جهة ودول خليجية من جهة أخرى، عنوانها أن طهران ليست الوحيدة في المعارك الدائرة، بل مدعومة بقوتين كبيرتين. من هنا تمثل مناورات "حزام الأمن البحري"، من وجهة النظر الإيرانية، رسائل دعم لها من قبل الصين وروسيا في نزاعها الحالي مع أميركا وحلفائها، وتحشيداً عسكرياً بحرياً مضاداً في سياق مواجهة التحالف الدولي البحري، وتأكيداً من إيران أن هذا التحالف لا يمكنه إقصاءها من ترتيبات تأمين أمن الملاحة البحرية، وفق ما يُستشف من التصريحات والتحليلات الإيرانية. وفي هذا السياق، ذهب بعض المحللين الإيرانيين إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن التجاوب الصيني والروسي مع طلب إيران لتنظيم هذه المناورات العسكرية في هذا التوقيت الحساس، يحمل في طياته تحذيراً مبطناً من أي هجوم عسكري أميركي على طهران.



رسالة أخرى أرادت طهران توجيهها إلى واشنطن وحلفائها، من خلال أولى مناورات على هذا المستوى منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، هي ما جاء على لسان المتحدث باسم المناورات، مساعد قائد العمليات في السلاح البحري للجيش الإيراني، غلام رضا طحاني، الذي قال إن "من أهم مكاسب المناورات، التأكيد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا يمكن عزلها وهي ليست معزولة". ويأتي هذا التصريح في وقت زادت فيه واشنطن من محاولاتها في إطار سياسة "الضغوط القصوى"، لعزل إيران دولياً وإقليمياً، فتمكنت من دفع الأوروبيين نحو مسايرة سياساتها تجاه طهران، في ما يتعلق بالاتفاق النووي، وكذلك بقية الملفات المثارة معها، بالإضافة إلى زيادة التهديدات للنفوذ الإيراني في الساحات الإقليمية، من لبنان إلى سورية والعراق وغيرها، خلال الشهرين الأخيرين.

وفي هذا السياق، برز قول القائم بأعمال وزير البحرية الأميركي توماس مودلي، يوم الجمعة، إن إيران قد تقوم "بأعمال استفزازية" في مضيق هرمز وأماكن أخرى في المنطقة في المستقبل. وقال مودلي لوكالة "رويترز": "أعتقد أنهم سيواصلون القيام بأعمال استفزازية هناك... وأعتقد أنهم سيتحينون كل فرصة ليفعلوا ذلك". وأضاف "ليس هناك ما يؤشر لي على أن هناك تغيراً في توجّه القيادة قد ينبئ بأنهم سيتوقفون عن ما كانوا يفعلونه... إلا إذا تغير النظام هناك". وأرسلت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) نحو 14 ألف جندي إضافي إلى المنطقة لردع إيران، منذ مايو، بما يشمل حاملة طائرات.

وإضافة إلى الأهداف التي تسعى طهران لتحقيقها من هذه المناورات، فمن الواضح أن هناك رسالة موحّدة تريد طهران وموسكو وبكين توجيهها للغرب، وواشنطن بالتحديد، في ظل العلاقات التنافسية المتوترة بين الصين وروسيا، مع الولايات المتحدة. وما يزيد من أهمية المناورات ودلالاتها، أنها الأولى من نوعها التي تجري في هذه المنطقة الحساسة من دون مشاركة أي قوة غربية، بينما على مدى العقود الماضية، كانت بريطانيا أو فرنسا وبالتحديد الولايات المتحدة، طرفاً ثابتاً في المناورات البحرية في هذه المنطقة بمشاركة أطراف خليجية. وهنا تحمل المناورات مؤشراً واضحاً على تصاعد الدورين الروسي والصيني في الساحات الأكثر أهمية بالعالم، مقابل تراجع دور الغرب والولايات المتحدة فيها، وهو ما يعني أن موسكو بعد ثلاثة عقود من الانكفاء إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، بدأت تستعرض قوتها، سعياً للعودة إلى دورها التقليدي في رسم المعادلات العالمية. وعليه، تعدّ المناورات باكورة عودة روسيا إلى هذا الدور، ودلالة على تشكيل تكتل بقيادة موسكو وبكين لمزاحمة النفوذ الأميركي في المناطق الاستراتيجية الأكثر حساسة في العالم.

وتؤشر مشاركة الصين إلى أنها تسعى للدخول في مرحلة جديدة من التنافس مع الولايات المتحدة، تتجاوز الطابع الاقتصادي الذي طالما أرادت بكين على مدى العقود الأخيرة أن يبقى الصراع محصوراً ضمن حدوده، لكن بعدما توجّهت واشنطن نحو تعزيز تواجدها العسكري في غرب المحيط الهادئ على مدى السنوات الماضية، ووسط حديث عن سعي واشنطن لنقل مركز ثقل الاستراتيجية الأميركية من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيط الهادي، لاحتواء الصين وتمددها السياسي والاقتصادي والعسكري، يبدو أن الأخيرة اتخذت وضعية الهجوم وعدم الاكتفاء بالدفاع عن محيط حدودها، في إطار مقاربة جديدة للصراع تتخذ طابعاً أمنياً واضحاً، لتفتح بموجبها أيضاً أول قاعدة عسكرية خارج حدودها عام 2017 في جيبوتي المطلة على باب المندب.

وبالنسبة لروسيا، التي عادت خلال السنوات الماضية بقوة إلى الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط من بوابة الصراع السوري، فإن هذه المناورات تشكّل فرصة ثمينة لها لاستعراض حضورها في شمال المحيط الهندي وبحر عمان، خصوصاً أنها حاولت خلال الشهور الماضية بعد تصاعد التوترات في مياه الخليج أن يكون لها موطئ قدم في الخليج أيضاً من خلال طرح مشروع لتأمين الملاحة البحرية فيه، لكن الدول الخليجية الحليفة لواشنطن تعاملت ببرودة مع هذا المشروع، وهو ما أحبطه. بالتالي، فإن موسكو معنية من خلال هذا الاستعراض البحري بالقرب من الخليج، بإيصال رسائل معينة لهذه الدول من خلال الاصطفاف إلى جانب إيران.
واليوم بعد هذا التصعيد الثلاثي في مواجهة واشنطن، تتجه الأنظار نحو رد الأخيرة، وعما إذا كانت ستقابل ذلك بتصعيد في الخليج ضد إيران لتقليص نفوذها البحري كما البري من جهة، ومنع روسيا والصين من تسجيل موطئ قدم جديد بشمال المحيط الهندي وبحر عمان، من جهة أخرى.