نحو 19 في المائة من الجزائريين يعيشون حالة فقر مستدام، خصوصاً في ضواحي المدن، والمناطق النائية، وهو ما دفع الحكومة الحالية إلى التحرك في هذا الاتجاه، علّها تنجح في تحقيق تنمية مطلوبة منذ عقود
يعيش أكثر من ثمانية ملايين جزائري من مجموع السكان المقدّر بنحو 43 مليون نسمة في البلاد، في ظروف معيشية صعبة، وذلك في مناطق فقيرة في الأرياف وفي هوامش المدن الكبرى حيث ينعدم كثير من مقوّمات الحياة الأساسية كالسكن والمياه والكهرباء والمدارس. وتسعى الحكومة الجزائرية إلى وضع خطة تأهيل عاجلة بما يقارب ملياري دولار أميركي موجّهة إلى هذه المناطق لتحسين ظروف العيش فيها وتوفير الأساسيات الضرورية وحلّ مشكلات التمدرس.
في 15 فبراير/ شباط الماضي، فاجأ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون محافظي ولايات البلاد وكوادر الحكومة في اجتماع موسّع، ببثّ فيلم وثائقي عن أوضاع جزائريين يعيشون في مناطق الهامش، وما زالوا بعد ستة عقود من الاستقلال من دون مياه، الأمر الذي يضطرهم إلى نقلها على الدواب من مسافات بعيدة، فيما يفتقرون إلى الكهرباء ويسكنون في بيوت من الطين والصفيح. أمّا أبناؤهم فمجبرون على السير لمسافات قد تزيد عن خمسة كيلومترات للوصول إلى مدارسهم. وقد وصف تبون تلك الأوضاع بأنّها أشبه بأوضاع الجزائريين في خلال الاستعمار الفرنسي. يُذكر أنّ المشاهد لم تكن اكتشافاً جديداً بالنسبة إلى الجزائريين، لكن طريقة عرضها كواقع مأساوي ومناسبته مثّلت نقطة تحوّل ومكاشفة حقيقية للحكومة وإدانة لسنوات حكم سابقة في ما يخصّ سياسات التنمية المحلية الرديئة. فتبون شدّد على أنّ تلك المشاهد لا تشرّف الجزائر بالمطلق.
أحوال بائسة
على مدى عقود، عاش سكان قرية السواسي، في بلدية بئر العرش بولاية سطيف شرقي الجزائر، في الظلّ وهم يعانون التهميش إذ إنّهم في خارج كلّ خطط التنمية. ففي هذه القرية البسيطة حيث تنعدم التنمية، يعيش الناس ظروفاً قاسية، خصوصاً في فصل الشتاء عندما تُعزل القرية بسبب الثلوج ويضطر سكانها إلى استخدام الحطب نظراً إلى صعوبة التزوّد بقوارير الغاز. هنا، ما زال السكان محرومين من أبسط تدابير العيش كالمياه الصالحة للشرب، إذ يتكبدون عناء التنقل لبضع كيلومترات من أجل جلب المياه على ظهور الحيوانات. وقبل سنوات، وعدتهم السلطات بإنجاز مشروع التموين بالمياه الصالحة للشرب والاستخدام المنزلي، إلا أنّ هذا المشروع لم يرَ النور حتى اليوم.
ولا تتوقف معاناة سكان هذه القرية الفقيرة على الصعيد المعيشي، لكنّ القرية تعاني كذلك من جرّاء المشكلات المرتبطة بالطريق والمسالك التي تربطها بالبلدات القريبة. فسكانها يضطرون إلى قطع أكثر من 17 كيلومتراً للوصول إلى مركز بئر العرش، نتيجة عدم صلاحية الطريق الترابي الرابط بينهما. المتاعب نفسها يعيشها التلاميذ الذين يقطعون مسافة طويلة سيراً على الأقدام للوصول إلى المدارس، الأمر الذي يعرّضهم إلى الإرهاق بالإضافة إلى التبلل من جرّاء المطر في فصل الشتاء. وقد دفعت الظروف كلها العائلات إلى وقف الفتيات عن الدراسة، كذلك ساعدت في توسّع الانقطاع المبكر عن التعليم في القرية. بالنسبة إلى سكان هذه القرية، هم يشعرون أحياناً بأنّ السلطات تتعامل مع واقعهم كما لو أنّهم ليسوا جزائريين.
ولا يُعَدّ وضع سكان قرية كاف السحاري بولاية المسيلة الواقعة إلى جنوب العاصمة الجزائرية أحسن حالاً من وضع سكان السواسي، فهما في الغبن سواء بسواء. هنا، ما زال السكان يعيشون ببساطة معتمدين على الزراعة والرعي، ويقطنون في بيوت من الصفيح والطين تغطّى بالقرميد فيما تغيب عن معظمها الكهرباء والمياه، أمّا تلاميذهم فيسيرون على الأقدام لأكثر من كيلومترَين لبلوغ المدرسة. ويرى السكان أنّهم يعيشون خارج اهتمام المسؤولين.
في هذا الإطار يقول محمد والي وهو أحد الناشطين في المجتمع المدني لـ"العربي الجديد" إنّه "بقدر ما لدى سكان هذا النوع من القرى من صبر على قساوة الحياة وقلّة الحيلة، بقدر ما لدى شباب القرية من غضب على المسؤولين الذين لا يزورونهم ولا يتكفلون باحتياجاتهم في حين أنّهم يتودّدون لهم فقط في مواعيد الانتخابات طلباً لأصواتهم". يضيف أنّ "المجتمع المدني يحاول كثيراً مساعدة سكان هذه القرى الفقيرة، لكنّ هذه المساعدات عابرة ولا تغيّر من طبيعة الحياة هنا التي تتطلب تدخل الدولة ومنح هؤلاء الجزائريين حقّهم في المياه والكهرباء والطرقات والصحة ولتلاميذهم الحقّ في التمدرس".
مع كل توغّل في عمق الجزائر، يزداد الغوص في خريطة الفقر والهامش أكثر وتبرز مظاهر التهميش وغياب التنمية وأساسيات الحياة. وإذا كانت قرى في الشمال والوسط تعاني من التهميش على الرغم من قربها من المدن والبلديات، فإنّ المشكلة تبدو أكثر مأساوية في مناطق الصحراء حيث التجمّعات السكانية تصارع قسوة الطبيعة إلى جانب المشكلات الحياتية. وتلك القسوة تتسبب فيها الرمال والعواصف والحرارة المرتفعة. يُضاف إلى ذلك البعد عن المدن، ما يعيق تمدرس الأطفال. وقد بلغت نسبة عدم التمدرس أو الانقطاع عن الدراسة نسباً قياسية في بعض التجمعات السكانية، ومنطقة الرمادة جنوبي الجزائر نموذج لهذا الوضع مع صفر نجاح في امتحانات شهادة البكالوريا. وقد نجمت عن كلّ هذا التهميش مشكلات كثيرة تتعلق بالأمراض ونقص التغذية والبطالة وغيرها.
لا سياسة وطنية عادلة
في السياق، يقول الباحث الأكاديمي محمد سالمي لـ"العربي الجديد" إنّ "مناطق الظلّ في مناطق الجنوب الجزائري والداخل كثيرة وقد تراكمت مشاكلها بسبب عوامل مختلفة، لعلّ أبرزها غياب سياسة وطنية عادلة في توزيع الريع، بالإضافة إلى تهميش السلطات للريف وتوجّهها إلى التركيز على المدن والتجمّعات السكانية الكبرى. وهو ما دفع إلى أمرَين، النزوح إلى المدن وتشكيل مناطق ظلّ فقيرة بما تحمله من مشكلات أخرى وضغط على المدن، وكذلك إفراغ الريف من سكانه الذين كانوا يساهمون بشكل بالغ في سلّة الغذاء المحلية. لذلك بقيت قرى كثيرة بعدد قليل من السكان، ما لا يشجع السلطات على تنفيذ مشاريع لأجلهم". ويلفت سالمي إلى أنّ "توجّه الحكومة نحو إصلاح أوضاع مناطق الظلّ قد يسهم كذلك في التشجيع على نزوح معاكس مستقبلاً، في حال نجحت فعلياً هذه السياسات ولمس السكان اهتماماً فعلياً من قبل الحكومة".
ويخطئ من يظنّ أنّ مناطق الظلّ تعني بالضرورة مناطق الريف والمناطق الجبلية والداخلية في البلاد، فمناطق ظلّ فقيرة موجودة كذلك على هامش النسيج العمراني للمدن وضواحي الحواضر الكبرى، خصوصاً أنّ الفترة التي شهدت فيها الجزائر أزمة أمنية في تسعينيات القرن الماضي دفعت في اتجاه نزوح أعداد كبيرة من السكان إلى حواشي المدن طلباً للأمن والأمان. في العاصمة الجزائرية نفسها، أحصى الفريق المكلف بوضع خريطة لمناطق الظلّ في ولاية الجزائر 299 منطقة ظلّ تقع خارج النسيج العمراني الحضري، ويعيش سكانها في ظروف شبه ريفية تستدعي إعطاءها الأولوية وتسوية المشاكل المستعجلة للتنمية على مستوى هذه المناطق، مثل بعض الأحياء والتجمعات السكانية (أحواش) في بلدات محالمة والسويدانية في الضاحية الغربية أو السمار وبرج الكيفان والرغاية في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية. وتعاني هذه الأحواش نقائص معيشية من قبيل غياب شبكات المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي والكهرباء والإنارة العمومية والغاز فيما تنعدم المرافق والمنشآت الرياضية والصحية والطرقات بالإضافة إلى بعد المدارس والمراكز الصحية.
وكان التصريح الأخير لوزير الداخلية الجزائري كمال بلجود للتلفزيون العمومي قد كشف أنّ عملية إحصاء أجريت من قبل المسؤولين المحليين، انتهت إلى وضع خريطة لمناطق الظلّ البالغ عددها 15 ألفاً. أضاف بلجود أنّ 8.5 ملايين مواطن جزائري يعيشون في مناطق الظلّ، مشيراً إلى أنّ الحكومة تملك خطة لإصلاح الأوضاع المعيشية في مناطق الظلّ بالتعاون مع المسؤولين المحليين الذين يتوجّب عليهم أن يدركوا ما يحصل في مناطقهم، وهم مكلفون بإنهاء مظاهر الفقر فيها. وشدّد بلجود على إشراك المواطن والمجتمع المدني في عملية مراقبة المشاريع في مناطق الظلّ. من جهته، كشف وزير الطاقة محمد عرقا بأنّ الكهرباء لم تصل بعد إلى بيوت 10 في المائة من السكان في الجزائر. والحكومة الجزائرية رصدت بحسب بلجود ما يقارب مليار دولار أميركي لتنفيذ ألفَي مشروع في تلك المناطق المعزولة التي تفتقر إلى أدنى شروط الحياة من قبيل الكهرباء وشبكات المياه والطرقات، والتي تواجه صعوبات في وصول مشاريع التنمية إليها ميدانياً. وستعمل قطاعات عدّة بالتنسيق في ما بينها لتمديد شبكات الغاز والكهرباء والمياه وتوفير سبل التنقل وتهيئة المسالك في تلك المناطق في كلّ البلاد وتخفيف معاناة السكان.
خطة عاجلة
في 14 أغسطس/ آب الجاري أعلنت الحكومة الجزائرية إطلاق خطة عاجلة لتحسين حياة الملايين من سكان مناطق الهامش تتضمن ما يقارب 12 ألف مشروع يشمل أكثر من تسعة آلاف منطقة فقيرة، تخص إنجاز 208 مشاريع لإيصال المياه الصالحة للشرب وتعبيد 170 طريقاً ريفياً و170 مدرسة ريفية و136 مشروعاً مع التزويد بالكهرباء والغاز الطبيعي وإنجاز 73 مركزاً صحياً و293 مشروعاً للصرف الصحي، إضافة إلى تهيئة فضاءات رياضية وترفيهية للشباب بغلاف يقارب 1.8 مليار دولار، لفائدة أكثر من 3.8 ملايين مواطن يعيشون في هذه المناطق الفقيرة في الريف والضواحي، بينها 1256 مشروعا يتوجب إنجازها قبل نهاية السنة الجارية.
وأطلق عدد من المشاريع الخدمية للمناطق الفقيرة في فبراير/ شباط الماضي. وكشفت الرئاسة أنه لم يتم إنجازها كلها، وتم التلاعب بجزء منها بواسطة غش وتقارير مغلوطة. وأظهر تقرير تلفزيوني مصور أن عدداً من المسؤولين قاموا بوضع معدات وتجهيزات تظهر بدء تنفيذ المشاريع بحضور كاميرات التلفزيون في شهر فبراير الماضي، لكنهم قاموا بسحبها ووقف المشاريع مباشرة بعد رحيل الصحافة، وهو ما وصفه الرئيس عبد المجيد تبون بالكوميديا والسلوك غير المسؤول، ما نتج عنه قراره قبل أكثر من أسبوع بإقالة 12 مسؤولا محليا وموظفا حكوميا. وتعهدت الحكومة الجزائرية بوضع آلية لمتابعة تنفيذ الخطة الجديدة ومراقبة شهرية لتنفيذ الخطة العاجلة.
تجدر الإشارة إلى أنّ السياسات الحكومية في الجزائر، وعلى الرغم من توفر وتدفق عائدات النفط، لم تنجح في تحقيق تنمية متوازنة بين المدينة والريف وتكريس عدالة اجتماعية بين السكان. وقد أدّى ذلك إلى اختلال كبير في مستويات المعيشة بين المناطق والطبقات الاجتماعية، وأسهم في خلق مناطق ظلّ بقيت على هامش الاهتمام الحكومي. وقد ساعد تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي على كشف واقع السكان المأساوي وإدانة المسؤولين، ما دفع الحكومة إلى الإعلان عن خطة تنمية عاجلة يتطلّع معها سكان تلك المناطق إلى تحسين أوضاعهم والتخلّص من الظروف المحيطة بهم وفقاً لما يعدّونه "حقاً في نفط الجزائر".