بعمر ناهز القرون التسعة، راكعةً صوب الشرق، كواحدة من سبعة عشر برجاً مائلاً حول العالم، عاليةً (بطول 65 متراً) فوق المآذن، في مدينة علا فيها صوت التفجير والنواح، كانت منارة الحدباء أو المنارة الحدباء، ضحية معركة الموصل الأخيرة، بعد أن نجت من "معارك" لم يرد لها أن تتوقف، طيلة عقد ونصف.
هي مئذنة الجامع النوري أو الجامع الكبير على الساحل الأيمن للمدينة، وإحدى معالم الموصل والعراق، ومفخرة معمارية لإبراهيم الموصلي. اختلف في تاريخ بنائها، هل هو في عهد عماد الدين زنكي أم خلال حكم ابنه نور الدين؛ لكن يُتّفق أنها كانت موجودة منذ القرن الثاني عشر ميلادي.
يقال أن الموصل تُكنّى بالحدباء نسبة الى مئذنتها المائلة هذه، وهي اليوم -المدينة- لم تعد قادرة على الميلان حتى، بعد أن سوّيت أغلب أحيائها ومبانيها بالأرض. بعد "معركة الموصل" سنة 2014 خطب في مسجد النوري أبو بكر البغدادي متزعم "داعش"، وبعد تدميرها اتهم "التنظيمُ" طيران "التحالف الدولي"، واتهمت حكومةُ العراق والتحالف "التنظيمَ"، فلا فخر لأحد، ولا قدرة لأي منهم على حمل مسؤولية تدمير الجامع ومئذنته المعلَمَة.
الراجح - ولا دليل جازماً بذلك - أن سبب ميلان المنارة شرقاً، هو الريح الغربية السائدة في الموصل (وما أكثر الرياح الغربية اليوم في المناخ العربي). وقد كانت مهدّدة بالانهيار لسنوات طويلة، وكأنها ترسل في كل يوم إشارة الى "حشّاشي" العصر، ومهووسي السلطة، بأن مصيرهم الانهيار إن لم يتداركوا ترميمها، وترميم حالهم. كانت تشير لهم نحو الشرق كل يوم، وتذكّر من استنجد بالمحتلّ الغربي، ومن طمع بـ"فتح الغرب"، بأن الشرق هو البوصلة. أُسقطت لأنه ما كان يُراد لها؛ كما لا يراد لنا، الانحياز إلى الشرق.
فرح كثيرون بسقوط الموصل، أو بـ"تحريرها"، كما فرحوا بسقوط بغداد مطلع القرن، والحق أن طرد الدواعش منها يستحق بعض الشعور بالراحة. غير أن سقوطها بيد غرباء آخرين، وبمساعدة محتل، يثير في نفوسنا الكثير من الشك والخوف. كما تعيدنا الواقعة إلى الأسطوانة المكرورة نفسها، عن الآثار والمعمار الذي يضيع أثناء حروب المنطقة منذ سنوات.
فإذا كان بعضها ينجو من الفوضى التي تحدث أوقات الحروب، وتسمح لكثير من الطامعين وضعاف النفوس بتهريبها وبيعها في السوق السوداء، فإن بعضها الآخر لا ينجو من الصواريخ والقنابل.
كما أن كثيراً منها يذهب تحت "حجج" دينية تدّعي محاربة "الجاهلية" وهي الجاهلية نفسها، كما حصل في العراق وحده، بتدمير مسجد ومرقد النبي يونس، ومرقد النبي شيت، وإحراق مئات المظان التي كانت محفوظة في مكتبة الموصل المركزية.
لماذا أسقطت الحدباء؟ ربما لكي لا تصبح رمزاً يشير لكل زائر لها مستقبلاً، بأن بغدادياً داعشياً مرّ ذات يوم من هنا، وربما لأن هذا الداعشي انتقم منها لخيانتها، بعد أن اعتقد أنها لانت له ورفعته فوق منبرها، ولعلّها ذهبت هكذا عرَضاً كأثر جانبي للاقتتال، وما أكثر ما يضيعُ عرضاً في أيامنا السود هذه.