ملهاة الدستور المطاطي في مصر

13 مارس 2019
+ الخط -
"في جميع الأحوال، لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقاً بالمزيد من الضمانات". هذا هو نص المادة 226 من الدستور المصري، والتي رغماً عنها، وعنا بالطبع، طرح البرلمان المصري حزمة تعديلاتٍ دستورية مقترحة، مرتكزها وغرضها تمديد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي. ليس جديداً أن تتحلى دساتير الاستبداد بالمطاطية، وأن تتسع وتضيق صياغاتها، وفق هوى المستبد وإرادته. لكن ما يلفت النظر ذلك العدوان على الفقه الدستوري الذي لم يلزم المستبد لاقترافه سوى أن يجند واحدا من أهل هذا الفقه، ليكون "ترزيا" يعيد ضبط الدستور بمقاسه. 
وصاحبنا الترزي، إذ يقتبس صوت المعرفة الدستورية التخصصية، وينطق باسم لجنة العشرة التي صاغت الدستور، بل وباسم مجلس النواب نفسه، نجده وقد استعار حجّة واحدة، ليثبت بها، اتباعا لتراث ترزية دولة يوليو المديد، الشيء ونقيضة. إنها المادة 226، قد ساقها رئيس مجلس النواب، علي عبد العال، للنفي، وانتصب في 2017 منفعلا لينفي صحة ما تردّد حينها عن نية (أو لنقل بالون اختبار جرى تمريره عبر أحد النواب، واهتم به الإعلام التابع للنظام) تعديل الدستور، والمادة 140 التي تحدّد مدى الرئاسة الزمني، وهبّ في الجميع ملوّحا بأن المادة 226 التي تحظر تعديل نصوص المواد المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية تقطع 
الطريق على هذه الشائعة. والفقيه الفكيه هو نفسه الذي رأيناه يُشرع مقصّه، ويهتف بالصوت المنفعل ذاته، بأن: لا شيء يمنع هذه التعديلات، ويضيف بثقة العالم: "لو كنت أشك لحظةً في أن طلب تعديل الدستور يمس الحظر الموجود في المادة 226 ما كنت لأدخله اللجنة العامة لمناقشته.. الحظر الخاص بفترتي الرئاسة لم يُمس، وإنما نتحرّك في مدة فترة الرئاسة فقط. التعديل فرضته الظروف التاريخية والمرحلة التي نعيشها، ولا يمس جوهر المادة، أنا شاركت في كتابة هذه المادة، وأعرف ما لها وما عليها". الرجل يركل بقدمه النص التحصيني ذاته الذي يحمى به الدستور مبادئ الحرية والمساواة.
استيعاب هذا التناقض أمر صعب. ربما يقال هذه مجرد وجهة نظر لأستاذ جامعي مختص بالفقه الدستوري، قد نتفق أو نختلف معه. أو يحتاج الأستاذ الجامعي المرموق لتذكيره بأن هذه المادة حاكمة؟ أو سؤاله باستنكار: إن لم يكن مقصدها حظر أي مساسٍ بمدة تولي المنصب، أو حد الفترتين كليهما، فلماذا وضعتموها في هذه المكانة، وضمن عبارة واحدة مع حماية مبادئ الحرية والمساواة؟ يدرك عبد العال، وكل أمثاله، أن ما ورد في المادة 226 هو حد تحريم قطعي، يمنع إجراء أي تعديلٍ على فترات تولي منصب رئيس الجمهورية، عدداً وطولاً. ولكن: ما الحال، ونحن إزاء رجل دولة قد أقسم على احترام الدستور، مرّة وهو يصيغه، ومرّة وهو يرعاه في المؤسسة التشريعية. يقينا ليس الحال مجرّد رأي، وإنما نحن بإزاء فعلٍ يصل إلى مستوى الجريمة الدستورية الكاملة التي تلقي بصاحبها إلى حضيض المكانة السياسية، والوصم التاريخي! يقينا، يعرف علي عبد العال ومن هم في سويته أن في مراوغتهم إفسادا مضاعفا لحال توازن السلطات، فضلا عن أن ما يطرحونه يخون، بكل حرف فيه، ضمانات تحقيق أي قدر من الديمقراطية في المستقبل. وهل يجادل عاقلٌ في أن حماية تداول السلطة (بفرض مغادرة من يتولاها عند حد زمني معين ليحل غيره محله) هو المعنى الذي تستدعيه مفردة ضمانات. وهل بإمكانهم اشتقاق غيره؟ بالجنون وحده ربما يستطيعون، ومن يمنع من فقدوا أهليتهم الدستورية والقانونية عن أن يهرفوا ويخرّفوا؟ من هدر الوقت والطاقة أن تحاول إقناع مثل هؤلاء بأن حمل المادة على محمل التمديد يحسم من المعنى الديمقراطي، ويمثل إجراما باسم الدستور، يخون، أول لا يخون، الإرادة الشعبية، ويعيق مبدأ تداول السلطة الذي هو أصلٌ في الديمقراطية!
الأمر أبعد من مجرد الجهل بالفقه الدستوري الذي أجبر على الانسحاب أمام إرادة المستبد، سواء بفرض صخب المراوغين على أي نقاش، واعتباره القول الفصل، أو بكتم أفواه المختلفين ممن ينبّهون وينذرون من عواقب ما يجري من عبث. وفيما يبدو أن إرادة المستبد، حين جلبت 
علي عبد العال إلى كرسي رئاسة البرلمان، قد أنسته علمه بالإغواء، وعلّمته أن ينطق بدلا من حقيقة المعرفة وصلابة القانون برخيص الأهواء. أو لعل الأمر أبعد من هذا. وبحيث يُطرح سؤالٌ قد يبدو ساذجا: لماذا يستثمر النظام في كل هذه المراوغات البهلوانية؟ لماذا يستهلكنا، ويستهلك نفسه في مهاتراتٍ حول مواد وتفسيرات دستورٍ لم يحترمه من بابه!؟ وكان ولم يزل يمارس التعدّي على ما فيه بكل الأريحية؟ ومن منا ينسى أنه، في معية الإرادة المسلحة، لا مجال للمناقشة، وأن كل حديثٍ ينطلق من موقع المثقف، وتصوّر أن في كلامه ونصحه ترشيدا لخيارات السلطة، لا محل له لدى من يردّدون بصوت الحكمة: "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع! هكذا يأمر صوت الغشم: مدّوا لما بعد الأربع سنوات، فيُستجاب ويقرر ويبرر، بالقدر والمدى الذي يوده السلاح وحامله".
الفولة ليست في حجة الظروف التي تطنطن بها قنوات دعاية النظام، فأي أوضاعٍ محلية وإقليمية ودولية ضاغطة استجدت منذ 2014؟ ولعل الحجة ذاتها، حجّة الظروف، هي ما يمكن الرد به على مثل هذه الترّهات، فمغامرتهم بطرح تعديل على هذا النحو، وفي هذه الظروف، إنما تضع مصر إزاء احتمال أكبر بعدم الاستقرار، وتَفجُّر مزيدٍ من الاضطراب، فهي تعلن رسالةً واضحةً إلى الشعب، مفادها أن الجمهورية تنقلب إلى ملكية، وأن منصب رئاستها قد بات مؤبدا، والأمر يستدعي ظلال مشروع التوريث المباركي الذي كرهه الشعب! ألم يكن رفضه مبتدأ ثورة يناير التي أطاحت حسني مبارك وأنهت حكمه؟ هل يحتاج الأمر لأن يتم تذكير علي عبد العال، وغيره ممن يطرحون هذا التعديل الإجرامي، به؟ نحن وهم نعلم أن ظل ثورة يناير ماثل أمام العيون، وأن إحياءها هو أكبر مخاوفهم.
الإجابة في الخوف، ولأنهم خائفون، أصرّوا على غلق السبل أمام أي اعتراضٍ على هذا التمديد، ملوّحين بدسترة حقيقة الحكم الراهنة حكما عسكريا. الأمر في يقينهم لا تحكمه نصوص الدستور، وإنما هو ماض بقوة السلاح. لذا، المكمل لجريمة مخالفة المادة 226 تلمحه في 
هرولة أمثال علي عبد العال إلى طرح تعديل على المادة 200 لا يسند وحسب مهمة سياسية صرف إلى الجيش، وإنما أيضا يضع الدولة بكاملها تحت الوصاية العسكرية! مادة لا تخرج الجيش عن مهمته الدستورية المتعارف عليها في الدفاع عن البلاد، بل وتجعله وصياً على الدولة، فيتولى "صون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقوّمات الأساسية للدولة، ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد". وبغض النظر عن التباسات الصياغة، لكن مهمة صون الدستور والديمقراطية والحقوق والحريات هي مهمة للنظام والحكومة ككل. ولا معنى لإفراد مؤسسةٍ بعينها بها، وبالخصوص الجيش، إلا إن كانت الغاية من ذلك منحه "حق الفيتو" على الممارسة السياسية بكاملها، لتعلو إرادته كل إرادة، بما فيها إرادة الشعب.
771E274E-51FA-4E0F-871D-6C3A9EE42D1E
عبده البرماوي

باحث وكاتب وفنان تشكيلي مصري