11 نوفمبر 2021
ملاحظات على هامش "كوفيد 19"
مع بداية ظهور جائحة كورونا في الصين وانتقالها عبر الحدود، وتحولها لوباء اجتاح قاراتنا الخمس، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن فرنسا تواجه حرباً ضد هذا العدو غير المرئي.
في هذه الحرب غير المألوفة برزت الكوادر الطبية كمقاتلين على الجبهات الأولى للتصدي للوباء العدو، ترافق ذلك خلال أيام قليلة مع حالة استنفار فريدة من نوعها ربما لم تعشها فرنسا منذ عقود من الزمن.
هذا الحشد المادي والسياسي والاجتماعي برز بشكله الفردي والجماعي تشارك فيه الحكومة بمختلف تكويناتها وصولاً إلى بعض وحدات الجيش، والشركات الخاصة والعامة وتجمعات المجتمع المدني. حالة التأهب وصلت إلى مشاركة السكان بتحضير وجبات الطعام وتصنيع الكمامات الطبية يدوياً للكوادر الطبية، في سابقة بالثقافة الفرنسية.
وعلى الوجه الآخر برزت الأوساط التقنية بمختلف ألوانها وتفرعاتها كمقاتلين على الخطوط الخلفية في هذه المعركة. نتيجة تخصصي وعملي في مجال الطاقة المتجددة والبيئة، تضم صفحتي الشخصية على موقع "لينكد إن" ما يزيد عن ألف شخص من العاملين في المجال الهندسي والعلمي وامتداداتهما المتشعبة، اعتدت يومياً إمضاء ما لا يقل عن ساعة من الزمن أتصفح آخر الأخبار والمشاريع المتعلقة بعملي، ومع بداية الحجر الصحي وتحول العمل لنمط جديد لم يألفه الكثير من الفرنسيين، اضطررت للغياب عن صفحتي على الموقع الأشهر في عالم الأعمال ما يزيد عن الأسبوع، وعند عودتي إليها، ظننت أن خللاً ما قد أصابها أو أن أحداً قام بقرصنتها!
تصفحت سريعاً عناوين الأخبار والمقالات العلمية التي فاتتني خلال أسبوع، للوهلة الأولى ظننت أنني في وسط طبي يتناقل آخر المستجدات والبحوث حول الفيروس الجديد شاغل الدنيا، فكل خبر أو مقال ينتهي بوسم "كورونا فيروس" أو "ابق في منزلك".
فوجئت بأن نسبة لا بأس بها من الموجودين على صفحتي قد تحولت لمقاتلين على الخط الثاني في المعركة، يوظفون تخصصاتهم المختلفة لدراسة الفيروس الجديد وأساليب انتقاله والتصدي له، وتأثيره على مختلف مجالات الحياة اليومية للفرنسيين، الأمر الذي ينعكس على حياة كل البشر.
في دراسة حديثة قام بها مختصون في الرياضيات والنمذجة والمحاكاة الرياضية بالتعاون مع كوادر طبية وصدرت منذ أيام عن آليات انتشار "كوفيد 19" في أحد المطاعم، تتحدث الدراسة عن أن مصاباً يجلس إلى إحدى الطاولات أمام جهاز لتكييف الهواء، ونتيجة حركة الهواء الدورانية ينتقل الفيروس إلى الأشخاص الجالسين إلى الطاولات المجاورة له على خط واحد، ولم ينتقل إلى الطاولات المقابلة له رغم أن مسافتها أقرب للمصاب، وبررت الدراسة أن حركة الهواء الدورانية الصادرة عن المكيف هي التي نقلت الفيروس للطاولات المجاورة المقابلة للمكيف، الأمر الذي يفتح مجالاً واسعاً للبحث حول آليات انتقاله التي لا نعرف عنها الكثير.
أحد الباحثين في تهوية الأنفاق وديناميك الهواء (اختصاص نادر من الهندسة المدنية) والذي أتابع إنتاجه العلمي، نقل نشاطه العلمي من الهندسة المدنية ووظفه في تفسير آليات وأشكال انتقال كورونا، وقام بالاشتراك مع فريق عمله بإنتاج عدة أشكال من النمذجة الرقمية لآليات نقل الفيروس المتوقعة عند الأشخاص المصابين في وضعيات فيزيائية مختلفة، كالمشي العادي والسريع والجري، إضافة لاحتمالات انتقال الفيروس وآلياته عند راكبي الدراجات بسرعات متوسطة وعالية. استطاع فريق العمل بسرعة قياسية ومرونة عالية نقل خبرتهم في قطاع هندسي بعيد، ليوظفوه في مجال يخدم المجتمع ومشاكله.
الحجر المنزلي أجبر شرائح واسعة على متابعة عملها من المنزل (عن بعد)، وعلى استخدام برامج لمحادثات الفيديو الجماعية لمتابعة أعمالها، هذه البرمجيات تثير مخاوف الفرنسيين منذ وقت طويل، من ناحية مخاطر الاختراق والتجسس، خصوصاً أن غالبيتها مصنعة في الولايات المتحدة والصين.
هذا الأمر دفع مهندسين في المركز الوطني للبحوث العلمية في فرنسا، والذي يعتبر من أهم مراكز البحوث على المستوى العالمي، إلى إطلاق صيحات التحذير من بعض البرمجيات والتريث عند استخدامها، خصوصاً في المجالات التي تندرج تحت قائمة الأمن القومي. هذه التخوفات دفعتهم للعمل على تطوير برامج آمنة صعبة الاختراق ليتم تجريبها واستخدامها بأسرع وقت في اجتماعات العاملين في المركز المنتشر في جميع الأراضي الفرنسية.
الكثير من المختبرات الجامعية الصغيرة والمتوسطة الحجم، تطوع طلابها وأساتذتها رغم حظر التجول وإغلاق الجامعات بشكل كامل، للبدء بإنتاج كمامات واقية ووسائل حماية للكوادر الطبية معتمدين على تكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد التي تعتبر من أهم أعمدة تطور الصناعة في السنوات القليلة الماضية، ومن المنتظر أن تكون إحدى ركائز التقدم الصناعي في المستقبل القريب.
في سياق مشابه، وفي خطة طموحة أعلنت مائة شركة فرنسية حكومية وخاصة عن التعاون لإنتاج عشرة آلاف وحدة تنفس اصطناعي خلال شهر إبريل/ نيسان، الكثير منها لا يعمل في مجال الصناعات الدوائية أو الطبية، خلال مدة لا تتجاوز الأسبوع وضعت خطة عمل مشتركة لتنسيق الجهود، وبدأت بتعديل خطوط إنتاجها في مدة قياسية لم تتجاوز بضعة أيام، لتبدأ تصنيع أجهزة التنفس بالتعاون في ما بينها، لتجنب الخضوع للأجندات السياسية الدولية وخصوصاً تلك التي تفرضها الصين على الدول الأوروبية في الوقت الحالي.
في مجتمعاتنا المهنية والعلمية كالأوساط الطبية وغيرها، يتساءل الكثيرون حول أهمية وجود أصحاب التخصصات التقنية الأخرى في فرق العمل. على الضفة الأخرى في المجتمعات القائمة على تصنيع التكنولوجيا، تجد مثلاً في الفريق الطبي اختصاصي الرياضيات والإحصاء والفيزياء والبرمجة وعلوم أخرى والسكرتارية التي تنسق أعمال الفريق، جميعهم يعملون بروح واحدة، كل له دوره ولا يتم إنتاج العمل ونجاحه دون تضافر جهودهم المشتركة.
المجتمعات المبنية على العلم والتصنيع والمنتجة للتكنولوجيا تختلف جذرياً عن البلدان المستهلكة لها حتى في آليات التفكير، فالأولى تتميز بسرعة حركتها وقدرتها على تنسيق العمل، إضافة لقدرتها العالية على إبداء رأي جاد وعملي في مجالات عمل بعيدة عن اختصاصاتها الدقيقة.
العامل الأهم الذي يقف وراء هذه المرونة العالية أنها تقوم على الابتكار وإدارة الموارد والمعلومات مهما كانت صغيرة وغير مهمة في نظر الكثيرين إضافة للعمل التعاوني الصادق، هذه الملكات التراكمية يصعب الحصول عليها ضمن مؤسسات ومجتمعات مستهلكة للتكنولوجيا، دون عمل جاد تراكمي حقيقي ومنتج.