نحو مساكن ما بعد كورونا
خلف انتشار فيروس كورونا آثاراً جانبية، تدفع الاختصاصيين لإعادة التفكير بمختلف أشكال الحياة الحالية للإنسان المعاصر، التي أضحى فيها الانسان، وخصوصاً في الدول المتقدمة والغنية، إنسانا معولما، يمكنه السفر والوصول لأي مكان في العالم ببضع ساعات.
ظلال هذه التغيرات ستطاول تفاصيل الحياة اليومية للإنسان بأدق التفاصيل، كمل ستصيب مسكنه اليومي الذي يشكل المكان الآمن والملاذ الأخير من متاعب الحياة اليومية الحديثة، هذا المسكن تحول خلال يوميات الحجر الصحي لمكان للعمل والتعليم وفضاء لتمضية الوقت والتسلية.
أثبتت تجربة كورونا ضرورة إعادة تقييم المساكن التي يقطنها الإنسان، هذه المساكن التي تخضع لنظريات متجددة في العالم الغربي من ناحية التصميم والخدمة والراحة والصداقة للبيئة، في حين بقي المنزل العربي في العقدين الماضيين حبيس نظريات قديمة، غالبيتها مستوردة من العالم الغربي، لذلك يجب إعادة قراءتها وتطويرها، والعمل على إيجاد هوية خاصة بالمنطقة العربية تراعي الهوية المحلية لكل إقليم، لتتمكن من التصدي لتحديات مشابهة لأزمة كورونا، إضافة لتحديات التغير المناخي التي تطرق أبوابنا بقوة، خصوصاً أن المباني في العالم مسؤولة عن استهلاك 30-40 بالمئة من مصادر الطاقة التي يستهلكها النشاط البشري.
إعادة القراءة يجب أن تؤكد أن لا ارتباط كبيرا بين القدرة المادية للإنسان وكلفة مسكنه وعوامل الراحة فيه، فالتجارب العلمية الحديثة تثبت أن المسكن الغالي متعدد الغرف ليس شرطاً ليكون مسكناً مريحاً، فالكثير من المساكن البيئية البسيطة المنتشرة حول العالم تحقق شروط الراحة أكثر من المباني الفخمة.
التهوية
مع انتشار جائحة كورونا تزايدت أعداد الباحثين المشتغلين في مجال التهوية والتكييف المنزلي العاملين على دراسة آليات انتقال الفيروس بالهواء وعبر أجهزة التكييف والتهوية.
ونشرت عدة أوراق علمية تظهر دور أجهزة التكييف والتهوية في تسريع نقل الفيروس نتيجة الحركة الدورانية للهواء الخارج من هذه الأجهزة.
هذه الدراسات تفرض على المختصين إعادة قراءة مدى فعالية التكنلوجيا الحالية، وقدرتها على التخفيف من انتقال أنواع مشابهة من الفيروسات مستقبلاً، وضرورة استخدام تقنيات جديدة من الفلترة للحد من انتقال الملوثات.
كما فتحت الجائحة النقاش مجدداً حول ضرورة استخدام التهوية الطبيعية وأجهزة التهوية الفردية في كل منزل، والاستغناء عن الأجهزة المركزية، رغم اقتصادية الأخيرة من ناحية استهلاك الطاقة خصوصاً.
كل هذه التحديات تفرض على الباحثين الإجابة عن سؤال محوري: كيف يمكن أن نؤمن تهوية أكثر صحة وأقل استهلاكاً للطاقة، كنوع من الإجابة على التحدي الصحي الذي فرضه فيروس كورونا، والتغير المناخي الذي يطرق أبواب البشرية مهدداً شكل حياتهم بالتغير بشكل جذري، والذي يعتبر تخفيف استهلاك الطاقة في المباني أحد أهم أشكال مكافحته.
قراءة جديدة للاحتجاجات
تغلب على المساكن في العالم العربي العناية بغرف استقبال الضيوف وغرف الطعام، على اختلاف الشرائح الاجتماعية والاقتصادية لأصحاب المنزل، فعادة الكرم والظهور بمظهر لائق أمام الآخرين سمة من سمات سكان هذه المناطق، ويشكل إعطاء الأولوية لهذه الفراغات على حساب الأماكن الأخرى، كغرفة الجلوس وغرفة النوم، أحد أهم متطلبات الزبائن، عكس ما هو سائد في العالم الغربي، الذي يعتمد مبدأ يقول إن المنزل يجب أن يخدم سكانه ويؤمن لهم أعلى درجات الرائحة والسكينة، على حساب الأمكنة المهيأة لاستقبال الضيوف.
كما تفضل الذائقة العربية المساحات الكبيرة، والغرف المتعددة دون النظر إلى عدد القاطنين في المنزل، فنرى أن الشاب والفتاة المقبلين على الزواج يرغبان بالسكن في أكبر المساحات، دون النظر إلى احتياجاتهما، في حين أن نظريات العمارة الحديثة تعتمد مبدأ تغيير المسكن مع تغير الاحتياجات، فكلما زاد عدد أفراد الأسرة يمكن تغيير المسكن نحو مساحة أكبر، وهذا ما هو منتشر في الثقافة الغربية والتي غالبا ما نرى فيها شخصان يسكنان في منزل لا يتجاوز غرفتين.
حولت جائحة كورونا البيوت مهما بلغت مساحاتها ومواصفاتها لأماكن عمل للكثيرين وكذلك لأماكن تعليم للأطفال.
لذلك يتوجب علينا إعادة قراءة الغايات الوظيفية لغرف الاستقبال، ودراسة إمكانية توظيفها في خلق بيئة عمل صغيرة ومكان تعليم في حال الضرورة.
أسطح المباني
تحولت المباني في العالم العربي في السنوات الأربعين الماضية لأماكن ثانوية لا تؤدي وظيفة خدمية ومعمارية جمالية، وأصبحت أماكن مهجورة ومستودعات لوضع خزانات المياه والوقود وصحون أجهزة البث التلفزيوني الفضائي.
مع انقلاب حياة الإنسان في زمن كورونا، وتعاظم الحديث عن التغير المناخي، أصبح من المُلح أن تتم إعادة قراءة الغاية الوظيفية منها، لتكون مكاناً لاجتماع العائلة مع الجيران من سكان المبنى، ومن الضروري تحويلها لمكان أخضر، تتم زراعته بالنباتات والأشجار المناسبة والتي تساهم في تأمين الحماية من ارتفاع درجات الحرارة المتزايد عاماً بعد عام.
على هذه الأسطح يجب استعمال نباتات توفر مناخاً معتدلاً يساهم في تخفيض تأثير درجات الحرارة على المسكن وسكانه، وتساعد على خلق مناخ تعاوني بين سكان المبنى، عن طريق زراعة بعض الخضروات والفواكه التي تتم رعايتها من جميع سكان المبنى، الأمر الذي يشكل حالة تفاعل وتعاون بين الجيران، ويؤمن مكاناً صديقاً للأطفال يمكن استعماله أيضا كفضاء لتوعية الأطفال القاطنين في المبنى من ناحية البيئة وضرورة حمايتها.
ويمكن استخدام تقنيات تجميع مياه الأمطار الحديثة والري بالتنقيط لسقاية هذه النباتات، الأمر الذي سيساهم في الحد من هدر المياه، ويؤمن فرصة للحصول على منتجات تساعد سكان المباني على تأمين احتياجاتهم في مراحل طارئة، كفترة الحجر المنزلي، كما يمكن إنشاء مسطحات مائية أو مسابح صغيرة بعد استخدام أجهزة الفلترة وتعقيم أحواض السباحة لتكون وسيلة ترفيه للسكان في أوقات الأزمات وفي الأيام العادية.
الشرفات
في العقدين الماضيين انتشرت في أوساط الكثير من المعماريين إمكانية الاستغناء عن وجود الشرفات المنزلية بمختلف أحجامها، فغابت في أبنية مدن الخليج العربي الحديثة الشرفة المنزلية، تحت ذريعة أن ارتفاع درجات الحرارة الكبير فيها يلغي دورها الوظيفي كوسيلة تنفس لسكان البيت.
كما غابت الشرفات عن الكثير من المخططات المعمارية في دول أكثر اعتدالاً مناخياً، كسورية والأردن وفلسطين ومصر ودول المغرب العربي.
في السنوات الماضية انتشرت هذه الظاهرة أيضا في المدن الأوروبية، لكن انتشار ثقافة المحافظة على المباني القديمة فيها وإعادة تأهيلها وترميمها دون هدمها وبناء الجديد مكانها، أدى للمحافظة على هذه الثقافة نوعا ما، ومحافظة الذائقة العامة على أولوية وجود الشرفة في المسكن.
هذه الشرفات المبنية في المباني القديمة شكلت وسيلة تواصل اجتماعي هامة في زمن الحجر الصحي، وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع الفيديو التي تظهر الموسيقيين يعزفون على شرفات منازلهم، ويتفاعل الجيران وسكان الأبنية المجاورة عبر شرفاتهم مع هذه الموسيقا، هذه الحالة شكلت فيها الشرفة وسيلة هامة جداً للتفاعل الاجتماعي، وطريقة لكسر العزلة الاجتماعية.
أزمة كورونا الحالية تشكل فرصة لإعادة التفكير في ضرورة وجود الشرفات لتكون وسيلة تواصل اجتماعي، وفسحة تواصل مع المحيط والسماء، إضافة لإمكانية استثمارها كحيز أخضر يساهم في زيادة المساحة الخضراء في المباني.
فرصة ذهبية
الثورات لا تقتصر على التغيير السياسي، بل يجب أن تشمل جميع مناحي الحياة للإنسان فكريا وماديا.
تعصف اليوم بدول العالم العربي أزمات سياسية واقتصادية طاحنة، ففي سورية واليمن وليبيا دمرت سنوات الحرب غالبية البنى التحتية، وأصبح ملايين السكان مشردين، ولا بد أن يأتي يوم وتبدأ مرحلة إعادة الاعمار، الأمر الذي يفرض على المشتغلين في هذا مجال التخطيط الحضري والعمراني، تطوير مفاهيم جديدة في التصميم والتنفيذ، آخذين بعين الاعتبار المدارس الحديثة وآخر ما تم التوصل إليه من نظريات جديدة للتصدي لأخطار مشابهة لفيروس كورونا، إضافة لتطوير المنزل العربي ليتصدى للتغير المناخي.
كل ذلك دون تغييب الهوية المعمارية الخاصة بكل منطقة جغرافية، فالخليج العربي وبلاد الشام ومصر والمغرب العربي، كل منها له مدارسه المعمارية القديمة الخاصة التي تتناسب مع المناخ والبيئة الجغرافية، والتي تطورت عبر عقود من الزمن ونابعة من ضرورات الحياة اليومية للسكان.
فالبيت العربي القديم يضم مسطحات خضراء ومصادر مياه ونوافير، وكان يعتمد على زراعة الأسطح، وفيه نوافذ بين البيوت للتواصل الاجتماعي مع الجيران، كما كان يراعي راحة سكانه بتخصيص أقسام للمؤونة والنوم والراحة، هذه العناصر يجب إعادة تفعيلها، وتوظيفها بما يخدم عمارة ما بعد كورونا، ونحو خلق هوية معمارية خاصة وحديثة تتصدى لكل ما يهدد إنسان المستقبل.