ملاحظات "العودة": هدوء الضفة كاذب والتهديدات لغزة بلا جدوى

01 ابريل 2018
ينقلون أحد الجرحى الـ1400 (عبد الحكيم أبو رياش)
+ الخط -
مثّل حجم المشاركة الجماهيرية الهائل في أول فعاليات "مسيرة العودة الكبرى" التي انطلقت، يوم الجمعة الماضي، في جميع أرجاء قطاع غزة مفاجأة حتى لممثلي الفعاليات المجتمعية والقوى الفصائلية التي أشرفت على تنظيمها. فعلى الرغم من حملة التخويف الممنهج التي عكفت عليها سلطات الاحتلال من خلال إطلاق التهديدات المباشرة وغير المباشرة وعبر توظيف مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الجموع زحفت لمعسكرات "العودة" التي تمّ تدشينها على نقاط التماس المختلفة على الحدود الفاصلة بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.

أكثر من ذلك، فور انتهاء أهل غزة من دفن شهدائهم، أمس السبت، عادوا واتجهوا إلى مدينة الخيام التي أقيمت قرب الحدود في القطاع، لاستئناف التظاهرات التي من المقرر استمرارها ستة أسابيع، وذلك بعدما أخفق مجلس الأمن الدولي، مساء الجمعة ـ السبت، في التوصل إلى إصدار بيان بشأن الوضع في غزة خلال جلسة مغلقة طارئة عقدها بطلب من الكويت.

وقال نائب المتحدث باسم الأمين العام، فرحان حق، إن "الأمين العام (أنطونيو غوتيريس) يدعو إلى تحقيق مستقل وشفاف في هذه الحوادث"، مؤكداً "استعداد المنظمة الدولية لإعادة إحياء جهود السلام". وخلال الجلسة التي عقدت على مستوى مساعدي السفراء، حذّر مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، تايي بروك زيريهون، من "احتمال تدهور الوضع في الأيام المقبلة"، داعياً إلى "ضبط النفس إلى أقصى حدّ". أما المندوب الفرنسي فرانسوا ديلاتر، فقد أفاد بأن "خطر التصعيد حقيقي"، مضيفاً أنه "هناك احتمال اندلاع نزاع جديد في قطاع غزة".

من جهته، اعتبر المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة، أن "الاعتراضات الأميركية في مجلس الأمن الدولي التي أدت إلى تعطيل قرار إدانة العدوان الإسرائيلي على شعبنا، تشكّل غطاء لإسرائيل لاستمرار عدوانها على الشعب الفلسطيني وتشجعها على تحدي قرارات الشرعية الدولية الرامية لإنهاء الاحتلال". وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس حمّل يوم الجمعة الماضي، الحكومة الإسرائيلية "المسؤولية الكاملة" عن سقوط الضحايا الفلسطينيين، مطالباً المجتمع الدولي "بتوفير الحماية للشعب الفلسطيني الأعزل".

وبخلاف التوقعات، فقد تبيّن أن التوتر الفلسطيني الداخلي الذي سبق تنظيم المسيرة والناجم عن الجدل حول ملابسات التفجير الذي استهدف موكب رئيس حكومة السلطة الفلسطينية رامي الحمد لله في غزة قبل ثلاثة أسابيع، لم يؤثر على دافعية الجماهير في المشاركة في فعاليات المسيرة. وتبيّن أن الحماس للمشاركة في المسيرة كان عابراً للانتماءات التنظيمية والحزبية، فضلاً عن الفروق العمرية. وحتى بعد وصول التقارير حول سقوط الشهداء في المواجهات تواصل تدفق الجماهير على مناطق التماس وباتجاه المنطقة التي تم تحديدها سلفاً. وهي مشاهد ذكرت بالإصرار الجماهيري على مواصلة تحدي الاحتلال بعد أن شرع في قمع تظاهرات الفلسطينيين عند اندلاع الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993).



بدوره، أراد الاحتلال الإسرائيلي إضفاء صدقية على تهديداته المسبقة باستهداف المشاركين في مسيرة العودة في حال اقتربوا من الخط الحدودي الفاصل، ما دفع جنوده إلى التوسع في إطلاق النار على الجماهير، مما أفضى إلى ارتقاء 17 شهيداً وسقوط حوالي 1400 جريح. لكن تل أبيب تعي في الوقت ذاته أن هذا السلوك يمكن أن يتحول إلى سهم مرتد ويفضي إلى صب الزيت على النار ويضمن زيادة دافعية الفلسطينيين لمواصلة فعاليات المسيرة.

وتُجاهر المحافل الأمنية الإسرائيلية بالتعبير عن مخاوفها من أن تفضي المواجهات في أرجاء قطاع غزة وما يصاحبها من سقوط للشهداء والجرحى إلى إشعال الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية. صحيح أن الضفة الغربية شهدت أمس بشكل عام هدوءاً نسبياً مقارنة مع ما كانت عليه الأمور في قطاع غزة، ولكن سلطات الاحتلال اعتبرت في الوقت ذاته أنه قد تم تحقيق هذا الهدوء بفعل التعاون الأمني بين هذه السلطات وأجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية.

فعشية إحياء فعاليات يوم الأرض أقدمت سلطات الاحتلال وأجهزة السلطة الأمنية على تنفيذ حملة اعتقالات واسعة شملت بشكل أساسي قيادات وعناصر حركة حماس. مع العلم أن هذه الاعتقالات لم تتوقف أصلاً، بل زادت وتيرتها فقط.

لكن ما دلّ على أن كلاً من السلطة وإسرائيل بات متخوفاً من حدوث تحول "إيجابي" على توجهات بعض القوى التنظيمية الفلسطينية في الضفة الغربية بشأن المواجهة مع الاحتلال، حقيقة أن سلطات الاحتلال قامت عشية الاحتفاء بيوم الأرض باعتقال عدد من قادة حركة "فتح" الميدانيين، وضمنهم أمناء سر التنظيم في بعض المناطق. وهو ما يمثل مؤشراً على عدم ثقة تل أبيب بأن توجهات قيادة السلطة الفلسطينية مقبولة على القيادات الميدانية لـ "فتح".



إلى جانب ذلك، فإن تواصل المواجهات في قطاع غزة ضمن فعاليات مسيرات العودة حتى 15 من مايو/أيار المقبل، بالتزامن مع الموعد المحدد لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، في 14 مايو، يرجح أن يزيد من دافعية الفلسطينيين للتعبير عن احتجاجاتهم، وهو ما يزيد من فرص تفجر الأوضاع الأمنية في الضفة على نطاق واسع. وتمثل الزيادة التي طرأت أخيراً على عمليات المقاومة الفردية ومحاولات القيام بهذه العمليات أيضاً، مؤشراً مقلقاً بالنسبة لدوائر صنع القرار السياسي والعسكري في إسرائيل.

على كل الأحوال، فإنه يمكن القول إن الفلسطينيين، حققوا بعد اليوم الأول من فعاليات مسيرات العودة إنجازات كبيرة. فقد فضحت هذه المسيرات حالة انعدام اليقين السائدة في إسرائيل تجاه السياسات التي تتبعها حكومة اليمين المتطرف حيال غزة. وهو ما يفسر الدعوات التي انطلقت في تل أبيب لإعادة تقييم استراتيجية التعامل مع القطاع. وفي الوقت ذاته، أثّرت فعاليات المسيرة بشكل واضح على الأجندة الداخلية الفلسطينية، وأدّت هذه الفعاليات وما صاحبها من تضحيات إلى تغيير اتجاه بوصلة الاهتمام الوطني الفلسطيني واختفاء السجال الداخلي وتبادل الاتهامات.

إلى جانب ذلك، فقد حمل تصميم الفلسطينيين على المشاركة في فعاليات مسيرات العودة واستعدادهم للتضحية على هذا النحو رسائل قوية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والأطراف الإقليمية العربية التي حاولت المساهمة في دفع الأفكار الأميركية لتسوية الصراع، أي "صفقة القرن"، بأن الفلسطينيين غير مستعدين للتعاطي مع أية مخططات تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وضمنها عبر طرح فكرة الدولة الفلسطينية في غزة وشمال سيناء. ويكتسب توقيت تنظيم هذه الفعاليات أهمية كبيرة، كونها تأتي بعد اجتماعات العصف الذهني التي احتضنها البيت الأبيض والعاصمة البلجيكية بروكسل لتدارس مستقبل قطاع غزة، وتبيّن أن الإدارة الأميركية عملت على التمهيد لدفع صفقة القرن من خلال التذرع بمتطلبات حل الأزمة الإنسانية في قطاع غزة. إلى جانب ذلك فقد عززت هذه الفعاليات من مستوى ثقة الفلسطينيين بأنفسهم وسمحت لهم باستعادة زمام المبادرة، فتحولوا إلى طرف مؤثر في بيئتهم الداخلية والإقليمية بعد أن كانت ساحتهم مسرحاً فقط للتدخلات الأجنبية.