"إن معنى الحياة ليس في استمرار الإنسان من جيل إلى جيل، بل في تحوّله من وحش إلى ملاك، من خاطئ إلى قدّيس. إن الحياة صعود مستمر من المستويات المنخفضة إلى المستويات المرتفعة". منذ ألقى دستويفسكي كلمته هذه في الذكرى المئوية لميلاد الشاعر الروسي بوشكين، لم تحقق البشرية تقدّماً في الاتجاه الصاعد. فالحروب والثورات أفرزت شياطين ومجرمين وضحايا؛ عيارات الوحشية في ارتفاع كماً ونوعاً.
من جانب آخر، ازداد الإنسان عزلة وبؤساً، رغم التقدّم الحضاري والرفاهية التكنولوجية، هذا على مستوى العالم المتقدّم، أما العالم غير المتقدّم، فشعوب بكاملها ترزح تحت ظلال الاستبداد والحروب الأهلية والفاقة والجهل. إزاء هذا التفاوت، يتراوح العالم بين شعوب تعاني من زيادة الوزن وأمراض التخمة وشعوب تعاني من الجوع والأمراض المميتة.
وإذا حافظ العالَمان على ما يفرّق بينهما، لن يلتقيا بحال من الأحوال، فالذين تشغلهم عروض الأزياء، وحظوظ العارضات السود النحيلات، يعيبون على النوع الثاني من البشر عدم قدرتهم على الاستفادة من نحولهم ولون بشرتهم؛ نعمة، للأسف لا يقدرونها.
فلماذا نطلب من الغرب الاهتمام بتقرير "المسلخ البشري" طالما أنه سبقته تقارير كثيرة وآلاف الصور عن المجازر؟ لم تزل حبراً على ورق، وصوراً عن عالم مهما كانت قسوته، انضم إلى غيره، ربما كان أبشع منه بالنسبة إليهم؛ إنها قصص الآخرين، والسوريون مسؤولون عما أحدثه فيهم سوريون مثلهم.
الغرب لا ينتظر نهاية فيلم بات يجري على الشاشات، لديهم أفلامهم المسلّية. وفي حال اختاروا، فهم يفضّلون المجرم الذي يعرفون، إنه الأقدر على التعامل مع شعبه، سينجح في كتم أفواههم، مثلما نجح في كتم أنفاسهم.
الحقيقة أن هذا التقرير موجّه للسوريين أنفسهم، إنه يخصّهم، كي لا يزعم أحد منهم أنه لم يعرف. مجزرة حماة أصابها الحصار والتعتيم، الذين عاصروها سمعوا عنها إشاعات لم يصدّقوها من فرط وحشيتها، والذين عايشوها خافوا من الإتيان على ذكرها. أما أبطالها الدمويون، فأنكروا أنهم قتلوا وذبحوا واغتصبوا ونهبوا.
اليوم، من يتجرّأ من السوريين على القول إنه لم ير أو لم يسمع. هذا التقرير لا يزيد عن أنه يؤكد ما سبقه، أي ما نعرفه وواثقون منه تماماً. لذلك لنصرف نظرنا عن العالم، فهو حر في الإنكار أو الاستنكار. الأمر يعنينا وحدنا بالدرجة الأولى، ألّا ننسى، ألّا نغفر، ألّا نسامح.
لا، لم يكن دستويفسكي متفائلاً، فهو الخبير الأكثر اطلاعاً على النفس البشرية، خاض في أكثر مناطقها وعورة، شراً وخيراً، براءة وقبحاً. هذا عالم بات معنى العيش فيه مجرّد الاستمرار في البقاء على قيد الحياة، وكأنما هي وحدها انتصار على الفناء، وتبدو البطولات الخائبة في أن ملايين الضحايا، والتدمير الهائل، لم تفلح في القضاء بعد على النوع الإنساني.
هذا العالم كان مكاناً سيئاً، وأخفقت البشرية في جعله مكاناً صالحاً للعيش.