همهمت في أذن الطبيبة التي تسعف المصابين وتكفن القتلى من أبناء رابعة أمام مول طيبة في صبيحة الفض، وقد التف حولنا الأمن من كل حدب وصوب، وهي تقف وحدها تضمد الجراح وتكفن الجثث وتتلقى الأنباء من الداخل، وتتلقى المزيد من الجثث يقوم بها أربعة من الشباب يروحون ويأتون كل هنيهة ومعهم مصاب أو شهيد جديد: كم عدد القتلى والمصابين؟
كانت شاحبة الوجه ترتجف، وكانت المرة الأولى التي أقابلها فيها في الميدان. قالت من طرف خفي وكأن الموت يلاحقها وكان صوتها متهدجاً وسريرتها مكروبة: " إن قلتُ قتلوني، ولكن الأعداد كبيرة". ساعتها تأكدت أن رابعة وما بعدها لن يكون على أثر ما قبلها وأن التاريخ سيتغير وسيقف كثيرا عما يجري في عملية الفض.
إلى الوراء قليلًا
عايشتُ فض رابعة العدوية شأني شأن كافة الصحافيين الذين استطاعوا التسلل صباحا عبر مخاطرات وتعرض للقتل أو الاعتقال، واستطعت الدخول إلى ميدان رابعة، وتحديداً أمام مول طيبة الشهير لأجد بعد دقائق من وصولي، وصول عشرات الجثث التي تأتي من الداخل ويخرج بها بعض أفراد الاعتصام، لكي تأخذها عربات الإسعاف إلى المستشفيات أو إلى مسجد الإيمان فيما بعد.
منتقبات واعتقالات
بضع دقائق وحاول بعض الأهالي، لا يتعدون العشرة منهم منتقبة ومحجبات، الدخول إلى الميدان، وفي الأثناء قابل محاولة دخولهم خروج العديد من المعتصمين فرحين بما قيل لهم إنه خروج أمن ، ولكن كلا الطرفين، مجموعة المنتقبة والخارجين من الاعتصام، تم الاعتداء عليهم بالضرب والشتم حتى أن أحد ضباط الجيش سب دين المنتقبة وخلع عنها نقابها، وقام باعتقالهم وإدخالهم إلى سيارة الترحيلات .
عداد الموتى
الساعات تلو الساعات وعداد الشهداء يزداد حتى أن المفارقة التي كادت تذهب عقلي، هي قول أحد الضباط الواقفين بجوارنا، نحن الصحافيين، ونحن نتابع عملية الإجلاء وحرق الخيام وهلكة السيارات باللودرات وقتل كل من بالداخل، لأحد الصحافيين وأنا على مقربة منه: "ما ذنب هؤلاء الشباب أن يموتوا؟ والله هما صعبانين علينا بس هنعمل إيه؟ أكل عيشنا بقى".
بدا أن أكل عيش الضابط ورفاقه هو قتل الناس، وصناعة مقتلة من أجل مكاسب ومغانم سياسية تريدها الدولة على حساب جثث المواطنين.
وانفض السامر
وانتهت المقتلة وقام ضباطها في ساحة القتال بالتقاط الصور وإعلان النصر المبين على نهاية اليوم، في الوقت الذي اتشحت فيه آلاف المنازل بالسواد والظلام الدامس حزنا على جثث احترقت وأشخاص حبسوا واعتقلوا، وجثث تاهت وضاعت وفقدت وتاه دليلها حتى الآن.
انتصرت الدولة برصاصاتها على الضعفاء من مواطنيها حتى وإن بدا لبعضهم الترهات التي قيلت عن تسليح ضخم داخل الاعتصام، إلا انه في النهاية سارت الدولة فوق صدور المواطنين وجثث أهاليهم وتيقنت من أنها انتصرت في عملية من الانحطاط التي لم يشهدها العصر الحديث.
ظنت الدولة أنها تبني من جديد نظاما سياسيا قائماً على المحاصصة أو على الفسطاطين، فسطاط الوطنية وهو ما يستحق التقريب والحياة والمحاباة والدعم، وفسطاط انعدام الوطنية، وهو ما يستحق القتل والسحق والسجن والاعتقال والفتك، وظنت أنها قادرة على النهوض مرة أخرى وبناء نفسها بعد معركة سياسية خاصة، ولكنها أغفلت أن الدول الناجحة لا تبني فوق جثث مواطنيها.
(مصر)